تتزايد معاناة المجتمعات الاسلامية عامة والعربية خاصة من تصاعد موجات الفكر المتطرف ، وهي وإن اختلفت في حجمها ومستواها وحدتها من مجتمع إلى آخر إلا أنه يجمعها فكر واحد ، هو فكر الغلو والتشدد والكراهية ، والذي تحول في العقدين الآخرين إلى سلوكيات عدوانية وصلت إلى ترويع مجتمعاتنا واستهداف الآمنين من المدنيين الأبرياء ، عبرالمنازلة المسلحة للدولة ، وتفجيرالنفس في الآخرين ،بهدف زعزعة الاستقرار، وبث الرعب وصولا الى أهداف سياسية من أبرزها ، إقامة سلطة على نمط حكومة (طالبان) .الحياة نعمة عظيمة وهي عطية الخالق ، ولذلك فالإنسان يولد محباً للحياة ، ومقبلاً عليها ، لكن عوامل مجتمعية داخلية وخارجية تجعل من هذا المخلوق كائناً عدوانياً يفضل الموت على الحياة ، هل تساءلنا : ما الذي جعل هؤلاء الشباب الذين تربوا بين أحضاننا ورضعوا من ثقافتنا وتعلموا في رحاب مدارسنا ومنابرنا الدينية ، ما الذي جعلهم ينقلبون على مجتمعهم وحوشاً ضارية وأدوات للقتل وقنابل مدمرة ؟.لقد اصطلح العالم على تسمية هذا السلوك العدواني بالعمل الارهابي ، تمييزاً له عن السلوك العدواني العادي وعن التمرد السياسي الذي قد يصاحبه بعض العنف ، لأن العمل الارهابي يقوم أساساً على إرهاب المجتمع ، ولأنه يستهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين ، ولأنه عابر للحدود والقارات ، ولأنه يجمع أصحابه فكر واحد ، هو فكر الكراهية للمجتمع والدولة والعصر والحياة بصفة عامة .العمل الإرهابي ، أساسه فكر متطرف ، يقوم على ادعاء مطلق بتملك الحقيقة كاملة ، مع رفض كامل لنسبية الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، بهدف الوصاية على الآخرين وفرض الرأي بالقوة .الإرهاب فكر، لكنه عدواني ، وهو مرض ، لكنه يصيب النفس ، ويميت القلب ، وبيئة حاضنة ، لكن تسودها الكآبة والبؤس والإحباط ، وصحيح أن هذا الفكر العدواني المنحرف، أساسه التنشئه الأولى وخبرات الطفولة القاسية ثم التعليم الآحادي التلقيني الذي لا ينمي العقلية الناقدة . إلا أن الخطاب الديني التحريضي وفتاوى التكفير والأشرطة والكتيبات المتعصبة وأخيراً المنبر الالكتروني المتطرف والذي أصبح بوابة التنظيمات الارهابية ، لها الأثر الأعظم في ترويج خطاب الجماعات المتطرفة.إن ما حصل في الساحة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من فكر متطرف معادي للحياة، أصاب بعض أبنائنا ودفعهم الى الهلاك، إنما تم زرعه ورعايته من قبل تيارات سياسية ودينية نجحت في غزو الثقافة المجتمعية المتسامحة وخاصة التيار التكفيري الديني ، والذي يمثل فكراً إقصائياً قمعياً يشكك في معتقدات الآخرين، ويتهمهم بالبدعة والانحراف والضلالة بحجة أن العقيدة الصحيحة واحدة، اصحابها في الجنة وغيرهم في النار، ويرى هذا التيار أن استخدام العنف وسيلة مشروعة في فرض الرأي السياسي والمفاهيم الدينية الخلافية.اما تيارالإسلام السياسي، وهو فكر يقوم على أبدية الصراع مع الغرب، باعتباره العدو الدائم المتربص والمتآمر على المسلمين ، ولذلك فهو فكر اتهامي مسكون بهواجس التآمر العالمي وهو لا يكتفي باتهام العالم فحسب بل وأيضاً ، يتهم وهذا هو الأخطر كل الأنظمة العربية الحاكمة بأنها صنائع الغرب وتنفذ مخططات الغرب ، وهذا التيار المتلون استطاع بدهاء أن يخترق البيئة العربية ويكسب بعض أبنائه إلى صفه ، فكونوا مزيجاً فكرياً أيدلوجياً ،هو توليفة متعصبة شديدة الخطورة.هذا التلاقح والتفاعل بين التيار الديني المتطرف والاسلام السياسي على امتداد العقود الأخيرة إلى إفراز ثقافة متعصّبة متطّرفة هي (ثقافة التطرف) ضد الآخر المحلي المخالف ، وضد الآخر الغربي ، وضد دعاة العقلانية والتحديث والمطالبين بتبني ثقافة المراجعة والنقد .و(ثقافة التطرف) هي توليفة من عنصرين (التكفير والتخوين) فإذا كان الديني يكفر ، فإن الاسلام السياسي يخون ، في إدعاء شمولي يحتكر الدين والوطنية .وما كان لهذه (التوليفة المتعصبة) أن تكون (توليفة متفجرة) إلا بفعل التحريض المستمر من قبل منابر التحريض وبخاصة الفضائيات والمواقع الالكترونية المنتشرة ، وكانت المحصلة النهائية تهيئة بيئة مجتمعية متعاطفة مع ثقافة التطرف.
فعندما يعتزل الإنسان في موقع قصى معتقداً في أنه هو وحده على الحق وأن الجميع على باطل ، لابد أن يزداد انحراف تفكيره ، وهو الانحراف الذي يبدأ عند الاعتقاد في امتلاك الحق والحقيقة .وهذا الاعتزال يدعم أيضاً الميل إلى الانتحار الذي يبتعد في هذه الحال عن المعنى الديني المتضمن في الاستشهاد. كما أن الانتحار هنا ليس ذاتياً فقط بهدف نيل الشهادة ، بل عاماً للأمة كلها ومؤدياً إلى نحرها كما أكد عليها انذاك اسامة بن لادن في خطابه بعد احداث 11 ايلول 2001 عندما قال ( أهون علينا أن تفنى هذه الأمة عن بكرة أبيها .. أهون علينا من أن نرى المسجد الأقصى يهدم أو نرى فلسطين تهود ويطرد منها أهلها ) .ولا يحتاج الأمر إلا إلى قدر يسير من المنطق لإدراك أن أصحاب هذا الخطاب المتطرف يصنعون المقدمات التي تؤدي إلى النتيجة التي يحذرون منها . فإفناء الأمة لن يحمى المسجد الأقصى ، بل يجعل هدمها أكيداً . فعندما تفنى الأمة ، إذا تبنت هذا الخطاب ، لن يبقى من يدافع عن مقدساتها . كما أن إفناء الفلسطينيين لن يحقق نصراً ، بل سينصر الصهاينة الذين لن يبقى أحد يقاومهم . وهذه النظرة تنطبق على العراق فأهون على ( التنظيمات المتطرفة ) ان يفنى العراق من بكرة أبيه ، أهون عليه أن يرى العراق محتلاً من امريكا . كأن العراق لوحده محتلاً من جميع دول العالم . وبدلاً من الاحتكام إلى العقل والحكمة والجدوى في اخراج المحتل بأقل الخسائر كما فعلت “المقاومة الوطنية” وبما يبقى العراق على وحدته وكرامته لمحو هذا الخطأ التأريخي الذي حصل في احتلاله عام 2003 .ولذلك فإن طرد الفلسطينيين والعراقيين أقل سوءاً من نصيحة ” القاعدة ” لهما بالفناء. فالمطرود سيجاهد من أجل العودة . وهذا هو ما يحدث منذ أكثر من نصف قرن في فلسطين وما يحدث في العراق منذ احتلاله عام 2003 .وهذا مثال واحد لما يمكن ان تقود ” ثقافة التطرف ” الشعوب إليه من جنون لا يمكن أن نطمح في ظله للارتقاء إلى مستوى مواكبة التقدم في العالم وكثيرة هي أوجه الشبه بين خطاب ” الجماعات المتطرفة ” هذا والاتجاه الذي يكفر الدولة والمجتمع معاً ويوجب الاعتزال في الجبال والكهوف والصحاري تمهيداً لمرحلة ” التمكين ” ولكن ربما لم تكن إلا مصادفة تلك التي جعلت قادة ” التطرف ” يعتزلون في جبال وكهوف مثلما دعا رواد فكر التكفير والاعتزال . ولكنها مصادفة ذات مغزى لأنه في أيامنا المعاصرة لا يمكن الاعتزال إلا خارج الكرة الأرضية.
وعندما عبر خطاب ” التطرف ” حدود الفكر ( الجهادي ) واستقر في كهوف الاعتزال ، فقد غادر في الوقت نفسه دار الإسلام مخالفاً الأمر الإلهي بعدم قتل النفس بغير الحق . بل أكثر من ذلك يتضمن هذا الخطاب اشمئزاز شديد من أي تحسر على قتلى أحداث 11 أيلول 2001 حتى ولو من الناحية الانسانية فأعتبرهم ” قتلة ” دون وجه حق ، لأنه لا يجوز تحميل مواطن في أي بلد سوء حكومته مهما كانت , فما أبعد خطابهم عن الفكر الإسلامي ، بما في ذلك الاتجاه ( الجهادي ) الأكثر تشدداً فيه ، وما أقربه إلى الاتجاه التكفيري الذي لا يتورع أتباعه عن ذبح بسطاء المسلمين المتدينين بفطرتهم كما فعلت ” الجماعة الإسلامية المسلحة مثلاً في الجزائر وكما فعلت التنظيمات المتطرفة في العراق.
ولـتأكيد هذا الخطاب المتطرف ما قاله ايضا “اسامة بن لادن ” في المقابلة مع صحيفة ” داون ” الباكستانية في أوائل شهر تشرين أول 2001 معبراً عن هذا الاتجاه عندما أفتى بجواز قتل الصبية الذين تجاوزوا الثالثة عشرة من عمرهم . فما قاله في هذه المقابلة هو امتداد لفتوى مفتي الجماعة الإسلامية المسلمة في الجزائر عندما أجاز قتل النساء والاطفال في الوقت الذي كان مجرمو جماعته يذبحون الجزائريين المسلمين كل يوم بمن فيهم أطفال ونساء وكذلك ما فعله قادة التطرف بأطفال ونساء وشيوخ العراق .وقد استفزت هذه الفتوى محمد مصطفى المقرئ أحد قادة ” الجماعة الإسلامية ” المصرية فكتب بحثاً عميقاً في الرد عليها ونشره في كتاب بالغ الأهمية صدر في لندن تحت عنوان ” حكم قتل المدنيين في الشريعة الإسلامية ” . وأثبت المقرئ أن هذه الفتوى لا أساس لها في الإسلام ، وأنها تنطلق بالتالي من موقف غير إسلامي . وعندما يكون هذا هو رأى أحد أكثر الإسلاميين ( الجهاديين ) تشدداً يصبح من الصعب المزايدة عليه . فهو يعبر عن الاتجاه ( الجهادي ) الذي يجوز اعتباره الحد الأقصى في فكر الإسلام السياسي ، والذي لا مزايد عليه . ويعنى ذلك بالتالي ، ان من زاد عليه فقد تجاوز هذا الفكر وأصبح خارج نطاق الإسلام السياسي .ولكن ما نعرفه نحن هو أنهم أساءوا إلى الإسلام بأفعالهم وأقوالهم وعلى سبيل القصد ومع سبق الإصرار خذ مثلاً دفاع ( أسامة بن لادن ) في المقابلة نفسها عن قتل المسلمين في أحداث 11 أيلول 2001 وتبريره ذلك بأنه ( حسب الشريعة يجب ألا يعيش المسلمون فترة طويلة في بلاد الكفار) . في حين أكثر من سبعة ملايين مسلم في امريكا وضعفه في بلاد الغرب .وبالقطع ليست هذه شريعة الإسلام لأن رب العالمين يخبرنا أنه خلق الناس شعوباً مختلفة ليتعارفوا. ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك أن يعيش مسلمون في بلاد غير المسلمين ، ليس فقط لهذا السبب ، ولا لطلب العلم كما أوصاهم نبيهم عليه الصلاة والسلام ولكن أيضاً من أجل الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن قضايا ومصالح المسلمين . وفي البلاد التي تتيح نظمها تكوين جماعات ضغط للتأثير على صنع القرار يستطيع المسلمون أن ينشطوا سعياً إلى هذا 0 لذلك يجب علينا ضبط الفتاوى (المكفّرة) والتصريحات (المخّونة) ومحاكمة أصحابها ، وتجريم استخدام منابر بيوت الله في غير أهدافها ، والحّد من نفوذ السلطة الدينية التي تضخّم دورها على حساب منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان .الاستبداد مرض خطير لكنه في الارض العربية، هو أحد إفرازات (التطرف) وذلك لا يكون إلا بإعلان (القطيعة المعرفية) مع الينابيع المسمومة والروافد التي تغذي تلك الثقافة.يجب أن نتعلم كيف نختلف دون أن نتخاصم أو يجّرح بعضنا بعضاً ، وأن يتحّلى كل طرف بشجاعة الاعتراف بأخطائه تجاه الآخر ، ومن ثم يسعى مخلصاً لتصحيحها عبر النقد الذاتي وآلية المحاسبة والمراجعة المستمرة ، ومن ثم أيضاً تكون عنده الشجاعة للاعتذار ، فذلك هو الذي يرسخ (ثقافة الحوار ) بدلاً من ( ثقافة التطرف).