تحدث القسوة دفعة واحدة.. يموت الجنود المتحاربون بعضهم يعانق بعضا فتتحد أجسادهم بعد أن رفضت أن تتحد في الحياة
لو يحدث للحجارة المرصوفة تحت سكك الحديد أن تنجب لأنجبت جنودا ، تشبه قصة فقدانهم حفرة بحجم قطيع ، ما تكاد تفلت من لحظة فزع حتى تعصف لحظة أخرى ، منسيين تحت جلد الذاكرة جرحا يعتاش على جرح ..
تحدث القسوة كما لو أنها نهر من القصب ، يغطس الجنود حتى خصورهم ليجروا مراكب حربهم ، بالملح يفركون عيونهم لئلا يغفوا ، ليس لهم سوى إنصاتهم كأنهم في غرفة معتمة مع أفعى ، يعرفهم الليل كائنات لوعة و انتظار ، أنصاف سكارى تزعم الحرب أنهم لا يموتون ، أبدا لا يموتون ، تشيخ ظلالهم لو تشيخ الشمس ، لا يعرف قاتلهم من قتيلهم كأنهم رماح مغروزة في صلب جبل ، تمسك صلادة أرواحهم بالحافة المجنونة للصبر ، و عبر صوتهم المحجور تلتحم جرعة موتهم بجرعة الحياة …
تحدث كما لو أنها نظرة أخيرة لمقطورة جنود ، تنهب العجلات أحلامهم و يخيط أفواههم أنهم لا يفرون ، تغلي صدورهم و تصير سياجا من الصبير زمزمياتهم لكنهم لا يفرون ، مثل كلاب عمياء يولدون من باطن خوذهم ، تفر رائحتهم غير انهم لا يفرون ، و يوم يكثر الفارون من نقائهم تعلم الحرب أنهم لا يفرون ، بأسنانهم يصنعون شمس العبيد ، يلوذون بأوجاعها و لا يفرون ، بجبيرة من صناديق الذخيرة يعصبون أطرافهم المحطمة و لا يفرون ، و لأنهم لا يسعون لتمجيد حرب تقول التقارير أنهم خائنون ..
تحدث القسوة كما لو أنها جندي يمشي على الماء ، عمره ألف حرب و يزيد ، لم يكن في القتلى ، لم يكن في الأسرى ، لم يكن في العائدين الى بيوتهم ، جندي لا يفكر به أحد ، تنهض جثته على أظافرها ، تسقط و تنهض ، تكتم موتها و تقف كأنها من صلب محارب مجهول ، تكتفي بنصف وجه و فردة حذاء و يد محنية بقسوة ، ترفض أكذوبة النصر ، و ما زالت تقول أن النصر في حرب أكذوبة لصناعة حرب أخرى ..
تحدث القسوة كما لو أنها حرب نائمين ، حرب جدار و جدار ، صور بالأسود و الأبيض تقتل الماضي و تحييه ، مدينة أسواق و دواوين جند ، زورق مملوء بالتمر و مغطى بالبواري ، نسأله فيغني ، مبخرة تضج بأسلاف صالحين ، ” سورين الساعة ” .. دم أراقه أهله ، شجرة بمبر تحفظ الوجوه إذ لا وجوه من دون شجرة بمبر ، أناس يقرئون السلام كل حين ، بائع رصيف يلف بجريدة عمره ثلاثة ملوك و خمسة زعماء و ست حروب ، منمنمات تبتاعها أسر البصرة من خوارزم ، مشهد فتى يٌعدم على حائط داره ، ما كان لمثله ، بنظارته السميكة ، أن يهرب من حرب لم يدخلها قط ، معلم الخيزران و تلاميذه ، بقايا أباريق تنعى سوق الصفارين ، مقهى لا تنشد لحرب تغدو مصنع جلود ، كاسحو ملح ، ” مواطنون أبديون تسكنهم بصرياثا ” ، ” جنود الكتابة و دراجات الليل ” ، ” قطارهم الصاعد إلى بغداد شعرية عمرهم ” ، ” لم يعد يجدي النظر ، لخمسين عاما يرقبون المارة ” ، عن ” عجوز يحب مدينته بالأمس أخذوا الوطن التفاحة ” ، و عن امرأة خلفها صِبية يعولون اخذوا لعنة الانتظار، النهر يبكي النهر ، و لفصاحة دهرهم عرفوا أنهم ورثة حرب ، مدينة تصنع لأطفالها نصبا تذكارية ليكونوا جنودا بالضرورة ..
تحدث القسوة كأنها حديث جدات عن عساكر هنود ، إلى أنصاف بنادقهم تمتد قاماتهم و يملأ سراويلهم القصيرة مزيج الضحك و اللوعة ، أدلاء بلباس التائهين ، غرباء تنعتهم أسواق البصرة بالصاحب ، من خشب السفن القديمة منجورة وجوههم ، يطيلون أعمارهم بشرب السم و مهر غزالتهم فيل ، عبدة التوابل و سكارى الحديث عن الحواة ، ليس لحاسدهم غناء و نهار غاباتهم ليل ، أوتارهم من الحجارة و أصابعهم من الدموع ، أهل لكل صناعة ، و كيف تشاء الخرافة تنبت حقيقتهم ..
تحدث القسوة كما لو أنها بألف رأس ، تنفرد جريد حرب بندائها ” احرقوا جثث الموتى” ، لم يسأل أحد عن مغزى النداء فليس لحرب صديق ، و مثلما تفعل الأيام الطاحنة ، إنها لا تفكر ، تستجيب لندائها فحسب ، تبدأ مشاعل مجهولة بإحراق جثث الجنود ، واحدة تلو أخرى ، تحدث القسوة دفعة واحدة ، نداء أعمى و مشاعل مجهولة و جثث جنود تحترق ، تلعب الكلمات لعبتها و تمضي غير ان النداء يستمر ، تغدو كل جثة مشعلا لجثة أخرى ، حتى إذا صارت لقسوة لا تصمد بوجهها جريدة حرب ، تتقدم الجريدة باعتذار ” لم نكن نقصد جثث الجنود كنا نقصد جثث الحيوانات ” ..
دفعة واحدة تحدث الحرب كأنها صندوق بقفل أبدي ، عبيدها عبيد ما تعاقب ليل ونهار، ليس لقسوتها أن تسكن ما لم نذبح كبشا و نسلخه و نلبس جلده ، يموت الملك من ملوكها فيوضع على سبخة من الأرض و امرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه …