من منا لم يفرح لرحيل المالكي وحلول حيدر العبادي أو أي عبادي آخر مكانه؟
ولكن قليلين منا تفاءلوا كثيرا بمقدم قيادي عريق في حزب الدعوة قضى نصف عمره في (الجهاد) في صفوفه، وتفانى في تقديم البراهين والإثباتات الفكرية والعملية الإنجازية لمسؤوليه الحزبيين ليثبت لهم إخلاصه وولاءه المطلق لفكر الحزب ولعملياته التفجيرية (الجهادية) في بغداد وبيروت، ولمرجعيته الدينية، ولنظام وليه الفقيه؟
ولكن الحمى، دائما، أفضل من الموت، والسيء أحسن من الأسوأ، والأعور أفضل من الأعمى، خصوصا وأن الوطن العراقي (المغضوب عليه) لم يسمح الاحتلالان الأمريكي والإيراني لملايينه المقموعة بأن تختار حكامها بالاقتراع المباشر، وليس بالمحاصصة والوصاية الأجنبية، لتتحمل وحدها مسؤولية ذلك الاختيار.
علما بأن النظام العراقي الجديد الذي اخترعه الاحتلال الأمريكي وباركه الاحتلال الإيراني جعل من رئيس الوزراء حاكما مطلقا يمسك، وحده، بكل صغيرة وكبيرة، وينفرد بالقرار في جميع الشؤون، مدنية وعسكرية، وله وحده حق التصرف بما تحت الأرض وفوقها، وحق عقد الاتفاقات المصيرية مع الدول الخارجية، وقرار فتح الحدود مع دولة، على مصاريعها، وإغلاقها مع أخرى.
يعني أنه الممسك بخوانيق الوطن وأهله المساكين. وما رئيس الجهورية ورئيس البرلمان ونواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء سوى قطع أثاث لازمة لضرورة استكمال الصورة. يعني أنهم لوازم ديكور لا قيمة لهم في الحقيقية، ووجودهم وعدمه سيان.
ولأن تراث الراحل نوري المالكي كان ثقيلا جدا ومرا جدا إلى أبعد مما تستطيع الملايين العراقية احتماله، فقد صار رحيله هو الهدف المطلوب، حتى لو جاء بعده شيطان آخر، ولكنْ أقلُ منه شيطنة وطائفية، وأكثرُ منه استخداما للكلام المعسول المنمق الملمع الذي يخدر السامع ويجعله يبتسم ويحلم ويتمنى أن يكون ربع كلامه مقصودا وقابلا للتطبيق.
والفضل الأكبر في حدوث هذا الانقلاب الصوتي العظيم داخل حزب الدعوة وخلف الأبواب المغلقة للتحالف والائتلاف يعود لداعش، بعد أن هرب أمامه جهابذة الجيوش الحكومية الجرارة في الموصل وصلاح الدين والأنبار، ونكسوا أعلامنا، وسودوا وجوهنا، وسمحوا لـ (مجاهدي داعش) بالوصول إلى أطراف العاصمة، جنوبها وغربها وشمالها، وإلى حدود أربيل.
لذلك، وعليه، فإننا (نزعل) كثيرا على الأخ حيدر العبادي حين يبلع وعوده بالإخلاص للوطن والحفاظ على سيادته وحدوده، وبالدفاع عن ترابه ومواطنيه، ورفض أية وصاية من أحد.
فقد صدقناه حين أعلن، وقت استيزاره، أنه سيضرب بيد من حديد على يد كل من ينتقص من سيادة الوطن ويتدخل في شؤوننا الحيوية العليا، كائنا من كان، بعد أن انتكهت كثيرا جدا في أيام سلفه غير الأمين.
لكنه، والحق يقال، أزعجنا كثيرا وأحزننا أكثر بموقفه الأخير من مسألة السيادة الوطنية. فهو نفسه الذي طلب، رسميا، من أمريكا وحلفائها أن تهب لنجدة العراق، وبالسرعة العاجلة، قبل أن يحتل داعش بغداد ذاتها.
وهو الذي رحب كثيرا وأكثر مرة بطائرات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأربعين دولة أخرى وسمح لها بأن تدخل سماءنا وتخرج منها، كما تريد، ومتى تريد، لدعم جيشنا الذي أكد رئيس الوزراء نفسه، وشركاؤه في دولة المحاصصة، أكثر من مرة وبأكثر من صيغة، أنه جيش من ورق، (خراعة خضرة) بالعراقي، و(خيال مآتة) بالمصري.
نعم، قالوا بالفم المليان إن هذا الجيش (العظيم) عاجز عن مواجهة عصابة من شذاذ جهلة طارئين على الحروب وفنونها وأسرارها، رغم أنه ابتلع ثلاثة أرباع ميزانية الوطن، على مدى عشر سنوات، وأغدقت عليه أمريكا وإيران وروسيا والصين وفرنسا وإيطاليا وجزر الواق واق بكل أنواع الأسلحة المتطورة، ثقيلة وخفيفة، وأمدته بالخبراء والمدربين، إلى حد أن شهد قائد عسكري أمريكي مكلف بتدريب قوات من الجيش العراقي أيام الراحل نوري المالكي بأن هذه القوات أصبحت لا تقل مهارة عن الجيش الأمريكي ذاته.
ولكن يبدو أن رئيس وزرائنا الجديد تعجل كثيرا وتصرف بارتجالية حين أظهر حماسا كبيرا للعون الدولي الخارجي. فالظاهر أنه لم يستأذن المرجعية، وسفارة الدولة الراعية، ولم يسألهما عن الحدود التي يمكنه الذهاب إليها في (كلامه المعسول) عن التحالف الدولي ودور العراق فيه من أجل محاربة داعش وغيره من تجمعات الإرهاب والإرهابيين.
فجأة أفاق الأخ حيدر العبادي وتذكر السيادة، وكأن للعراق سيادة لم تنتهك بعد. فقد أبلغ نظيره التركي أحمد داود أوغلو رفضه لدخول أية قوات أجنبية الى العراق لمحاربة «داعش». وقال مكتبه في بيان نشر مؤخرا إن «العبادي عبر عن رفضه لوجود أية قوات أجنبية على أرض العراق»، مشيرا الى أنه «شدد على ضرورة احترام جميع الدول سيادة العراق ووحدة أراضيه». لكن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تباهى بوجود قوات إيرانية في العراق حين قال: «لولا الدعم اللوجستي الإيراني وتقديم الاستشارات العسكرية للقوات العراقية لمواجهة داعش لكانت بغداد قد سقطت منذ البداية».
وكانت مصادر دولية غير عراقية وغير عربية أفادت بأن «إيران تشارك فعليا في قيادة الجيش العراقي، حيث شارك قاسم سليماني في قيادة عمليات الجيش العراقي ومعه عدد كبير من الضباط الإيرانيين».
إذن فدعوة رئيس الوزراء للأصقاء والحلفاء (الأجانب) إلى احترام سيادة الدولة العراقية تعني أن هناك نوعين من الاحتلال، واحد حرام وآخر حلال.
ولو كنت مكان الأخ حيدر العبادي لقلتها بصريح العبارة، ” إننا نبيح سيادة العراق لمن هب ودب، بالطيران وبالخبراء والمستشارين والمخابرات والمتطوعين، ولكن في مناطق عراقية دون أخرى، وبشرط ألا يقترب (المتدخلون الأجانب) من مناطق انتشار الحرس الثوري الإيراني في العراق، ولا من مناطق (جهاد) المليشيات الشيعية أينما تواجدت، وبالأخص قوات (بدر) وقائدها المظفر هادي العامري الذي يقاتل اليوم في محافظة ديالى لترحيل السنة عن مدنها وقراها، وجعلها حزاما أمنيا محكما يحمي الحدود الغربية لدولة الولي الفقيه”
ثم كان عليه أن يضيف، مختتما أعلانه التاريخي، قائلا ” سامحوني أنا عبد مأمور”.