-1-
توجيه الإتهام للابرياء عمليةٌ محفوفة بالعديد من المحاذير الشرعية والقانونية والاخلاقية ، فضلاً عن أنها ليست مستساغة بالمعايير الانسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية أيضا ..
إنّ البراءة هي الأصل ما لم يثبت العكس ، وهذا هو مقتضى الأصول الشرعية .
وحين ينص القانون على ( أنَّ المتهم برئ حتى تثبت ادانته ) فهو يتناغم مع هذه الأصول .
فالتجريم بحاجة الى دليل بينما البراءة لا تحتاج الى دليل خاص ، لأنها هي الأصل .
-2-
والسلطويون أكثر الناس توجيهاً للاتهامات بحقّ غيرهم ، لاسيما للمعارضين لسياساتهم ومناهجهم …،
وهم لاينطلقون في ذلك من منطلق سليم ،فقد يتهم المنافس بأنَّه متآمر..!
وقد تُفتعل قضايا كيدية لاتمت للحقيقة بصلة …
-3-
والغريب أنَّ بعض السلطويين ينسى أو يتناسى العلاقة الوثيقة التي تربطه بمن يوّجه له الاتهام ..!!
وهذا يعني أنَّ حبّ السلطة يلغي كل ما (للزاد) و(الملح) من مفاعيل ..!!
-4-
ومن غرائب ما قرأت في هذا الباب :
قصة رواها الاستاذ (السيد احمد الحبوبي) في كتابه (أشخاص كما عرفتهم) عن القانوني الراحل (عبد الرحمن البزاز) الذي ترأس الوزارة العراقية أيام العارفيْن .
يقول الحبوبي :
( التقيتُ بعبد الرحمن البزاز في القاهرة عندما جئتُها في الشهر الخامس سنة 1960 .
وتشاء الصدف ان يكون سكني قريباً من سكنه ، فكان يخرج بعد صلاة العشاء من شقته يمارس رياضة المشي مستعينا بعصى ، ويجوب بعض الشوارع الهادئة القريبة منه ، ثم يعرّج على شقتي ويقضي معي بعض الوقت وكأنها محطة استراحة .
ويبدو على سجيته متحللا من القيود ، ويطلبُ إسماعَهُ أبياتا من الشعر كنتُ أحفظ لكثير من فطاحل الشعراء كالمتنبي وابو تمام والبحتري وابن الرومي ، وكان سعيداً وهو يستمع للشعر الجيد ..
وعند المغادرة أرافقه المسير حتى سكنه ، ص69
ويسرد في ص 71 حكايته مع البزاز في الاسكندرية ، حين قال له البزّاز:
” يا أخ احمد
انا تعبان واريد ان أسافر الى القاهرة وأرجوك أن تأتى معي الى محطة (الباص) لحجز التذكرة والسفر من محطة (الرمل) ..،
وكان مما قاله الحبوبي للبزاز :
( ان الوقت ما زال مبكراً والسيارات المسافرة الى القاهرة لها مواعيد ، فلا بأس ان تستريح هنا بعض الوقت ثم نذهب سوية الى محطة (الرمل).
فاطمأن بعض الشيء …)
يقول الحبوبي :
( ولم اذهب به الى محطة الأتوبيس بل جئتُ به الى شقتي التي اسكنها في (الشاطبي) ،ولم يفاجأ عندما وجدني أفتح باب الشقة وأدعوه للدخول بل بادر بعد ان دخل الى خلع (الجاكته) والحذاء وتمدد على الكنبة، فطلبتُ منه ان يرتاح في غرفة النوم ، وراح في نوم عميق بمجرد ان ألقى بجسمه على السرير ، وتركتهُ نائما حتى غروب الشمس ، فاستيقظ وقد تحسنت حالتُه النفسية كثيراً ، وبعد أنْ اغتسل وتوضأ وصلى كانت نفسه مفتوحة للطعام فأكل (التمن والقيمة) من طبخ زوجتي، وشكرها كثيراً على طبخها ، وبعد أن شرب الشاي قال :
أشعر بتحسن كبير وَمَعَ هذا فاني أفضّل السفر الى القاهرة، فصحبتُه الى محطة الاتوبيس وانتظرتُ حتى غادر الى القاهرة وأنا مطمئن على حالته..
بعد انتهاء الصيف عادت لقاءاتنا المسائية في القاهرة )
ص72 /المصدر السابق
وواضح من هذا السرد متانة العلاقة التي تربط الرجلين
يقول الحبوبي :
( وعند فشل محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية ضد عبد السلام عارف، عندما كان يحضر مؤتمر القمة العربية في الرباط ،عيّن عبد الرحمن البزاز رئيساً للوزراء ) ص73 / المصدر السابق
ويستمر الحبوبي في الحديث قائلا :
( ولم يكتب النجاح للمحاولة الانقلابية التي قام بها (عارف عبد الرزاق) سنة 1966 .
وكنتُ وقتها خارج العراق …
وقد أزعجني ما قرأتُه في احدى الصحف العراقية عن المؤتمر الصحفي الذي عقده عبد الرحمن البزاز (رئيس الوزراء) بعد الانقلاب الفاشل
مباشرة ، فقد وجدتُ فيه اتهاما صريحاً لي بأني ضالع ومشترك في مؤامرة لا أعرف عنها شيئاً حيث كنتُ خارج العراق .
فبعد أن شرح البزاز أبعاد (المؤامرة) وأسماء المشتركين المقبوض عليهم والهاربين (واسمي واحدٌ من الهاربين) سأله احد الصحفيين :
كيف يتسنى له الاشتراك بعملية انقلابية وهو خارج العراق ؟ وكان جواب البزاز :
نعم ان الحبوبي أحد المشتركين في المؤامرة ، واسمه موجود حتى لو كان خارج العراق …
آلمني إصرارُ البزّاز على اتهامي ،
وكنتُ أعهد فيه التروي ،
وتغلب عليه صفة (القاضي) بعد ان جلس على منصة القضاء ردحاً طويلاً من الزمن ، أكسبته دون شك كيف يزن الأمور ولا يُطلق الكلام على عواهنه ) ص76 / المصدر السابق
ويقول الحبوبي :
( وصدر بحقي برقية عممت على جميع الحدود العراقية بوجوب اعتقالي…
وتأخرت عودتي الى العراق اذ اضطررتُ الى البقاء في لبنان بعض الوقت بعد انتشار مرض (الكوليرا) في العراق سنة 1966 .
وقبل عودتي الى العراق سقطت وزارة عبد الرحمن البزاز ، وكلف الأخ (ناجي طالب) بتشكيل الوزارة …
وعند مروري على نقطة الرطبة الحدودية في طريقي الى العراق، أخرج ضابط الجوازات من درج مكتبه برقية اعتقالي صادرة بتاريخ سابق ، وراح يلوح بها وقال وهو يضحك (الحمد لله على السلامة استاذ ..) ص77 / المصدر السابق .
ولا ندري ما الذي حمل (البزاز) على توجيه الاتهام للسيد الحبوبي :
هل هو التعجل ؟
أم هو اشتراك (الحبوبي) و(عارف عبد الرزاق) في نزعتهما (القومية) سياسيّاً ؟
ام انها التقارير الكاذبة المرفوعة ضد الحبوبي الى رئيس الوزراء ؟
وعلى كلّ التقديرات السابقة فانّ الذي أنقذ الموقف سقوط وزارة البزاز .
وهكذا تبقى هذه القصة مثالاً على ما تمور به الأيام من باطل الاتهام …
*[email protected]