18 نوفمبر، 2024 5:55 ص
Search
Close this search box.

بوشكين واللغة الروسية

بوشكين واللغة الروسية

الاداب- شكل من اشكال الفن , وكل شكل من هذه الاشكال يمتلك بالطبع اداة التعبيرالخاصة به, و على هذا الاساس , تعد الالوان اداة تعبير الفنون التشكيلية, والاصوات اداة تعبير الموسيقى , والاحجار والخشب والمرمر..الخ ادوات تعبير النحت … الى آخره , اما الاداب فان اداة تعبيرها هي – الكلمة, واللغة المحددة بالتالي باعتبارها مجموع تلك الكلمات المحددة , ولهذا يمكن للفنون التشكيلية والموسيقية والنحت …الخ ان تكون عالمية وقومية في آن واحد حتى عند ولادتها لأن وسائل تعبيرها مفهومه للجميع بغض النظر عن قومية هذا او ذاك من المتلقين لها من البشر , اما الاداب فانها ظاهرة قومية بحتة بالضرورة , لانها ترتبط باداتها التعبيرية , وهي اللغة القومية لكل شعب, ويمكن بالطبع ان تصبح الاداب القومية ظاهرة عالمية في الفن – مثل بقية الاشكال الاخرى للفن – عندما تتحول الى اداب عالمية , اي عندما تعبر – وبشكل فني رفيع و رائع- عن معاناة الانسان في كل مكان واحاسيسه وهمومه المشتركة في مسيرة الحياة الانسانية عموما , وعندما يتم ترجمتها طبعا الى لغات اخرى بمستوى فني رفيع , ولكنها تبقى قبل كل شئ آخر- ظاهرة قومية لارتباطها باللغة القومية لذلك الشعب . وعند معظم الشعوب يوجد اسم أديب او عدة اسماء من الادباء تمثٌل نموذجية تلك اللغة القومية , وتتجسد مفرداتها وخصائصها في مجمل نتاجاتهم في تاريخ تلك الامة ولغتها , و الكساندر سرغيفيتش بوشكين (1799-1837 ) – هو النموذج الاول بالنسبة للشعب الروسي واللغة الروسية بلا أدنى شك , وليس من باب الصدفة بتاتا ان الدولة الروسية قد حددت يوم السادس من حزيران / يونيو من كل عام يوما عالميا للغة الروسية ( يتم فيه الاحتفال الشامل والكبير والاشادة باللغة الروسية داخل روسيا وخارجها) لانه يوم ميلاد اديبها الكبير بوشكين , وقد حدث

ذلك عندما زار الرئيس الروسي – في حينها – دميتري ميدفيديف معهد بوشكين للغة الروسية في موسكو وتحدث مع كبار الاختصاصيين في اللغة الروسية وآدابها حول ذلك , ومن نافل القول الاشارة هنا الى ان هذا الصرح العلمي المشهور على المستوى العالمي وهو – المعهد المركزي لدراسة اللغة الروسية في العاصمة الروسية موسكو يحمل اسم الشاعر والاديب الروسي الكبير بوشكين نفسه .

لقد أصدرت اكاديمية العلوم السوفيتية في حينها بموسكو في اعوام ( 1956- 1960 ) الطبعة الاولى من كتاب بعنوان – ( قاموس لغة بوشكين ) ويقع باربعة أجزاء وباشراف مباشر من قبل الاكاديمي السوفيتي المعروف فينوغرادوف , والذي يعد واحدا من أكبر المتخصصين في اللغة الروسية , وهو قاموس فريد من نوعه يضم المفردات الروسية التي استخدمها بوشكين في نتاجاته الادبية المتنوعة في الشعر والنثر, وقد ضٌم اكثر من 21 الف مفردة روسية , وفي عام 1982 صدر ملحق اضافي لذلك القاموس ضٌم 1642 مفردة جديدة اخرى , وتم اصدار الطبعة الثانية لقاموس لغة بوشكين عام 2000 من قبل اكاديمية العلوم الروسية ايضا ( اي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 )وبالذات بعد الاحتفالات المهيبة التي اقامتها روسيا الاتحادية بالذكرى المئوية الثانية لميلاد بوشكين عام 1999 , وهذا مؤشٌر يمتلك دلالة فكرية كبيرة ومهمة جدا في هذا الشأن طبعا , اذ انه يعني – فيما يعنيه – ان الموقف تجاه بوشكين مستمر بنفس ذلك الاتجاه رغم التغيير الجذري الذي حدث في روسيا ومسيرتها , اي باعتبار بوشكين رمزا لروسيا ولغتها . وعلى الرغم من وجود قواميس مشابهة لهذا القاموس بالنسبة لبعض الادباء الروس الكبار الآخرين , الا ان عدد تلك المفردات في قاموس لغة بوشكين اكثر واعلى من كل تلك القواميس الاخرى للادباء الروس , ومن جملة الاشياء التي وقفنا تجاهها مندهشين – عندما كنا طلبة في الجامعات الروسية السوفيتية آنذاك قبل خمسين سنة ونيٌف من الان – ما ذكره لنا في حينها أحد اساتذتنا الروس قائلا , ان عدد المفردات التي استخدمها بوشكين ( الذي عاش 38 سنة ليس

الا وتقع مؤلفاته الكاملة في احسن الاحوال في حدود عشرين مجلدا لا غير) هي اكثر من عدد المفردات التي استخدمها تولستوي ( الذي عاش 82 سنة وبلغ عدد مؤلفاته الكاملة 90 مجلدا ), ولا يرتبط هذا الموضوع بتولستوي فقط , بل بكل الادباء الروس بشكل عام , ويمكن القول ان الروس – ولحد الآن – عندما يختلفون حول مفردة- ما يحاولون ان يستشهدوا بشعر بوشكين لاثبات صحة أرائهم في اللغة الروسية , وعندها يحسمون تلك الاختلافات اللغوية حول اللغة الروسية , وقد كنت شاهدا على عدة حوادث حول ذلك, واريد الاشارة هنا الى ان المصادر الروسية كافة تؤكد دائما ان بوشكين هو من وضع الاساس للغة الروسية المعاصرة اليوم , وانه يجسٌد مرحلة جديدة فعلا في مسيرة اللغة الروسية وتاريخها , اذ انه حررها من الاسلوب الجامد القديم وتزمٌته المقيت ومنحها حيوية اللغة التي يتكلم بها الشعب الروسي في حياته اليومية الاعتيادية , ومن الطريف ان نشير هنا الى ان هذا الواقع متفق عليه من قبل الروس جميعا رغم الاختلافات الفكرية الكبيرة – وحتى الجذرية – بين مختلف المدارس الايديولوجية الروسية كما هو معروف , وحتى لينين اشار – في احدى مقالاته – الى ضرورة دراسة اللغة الروسية المعاصرة من ( بوشكين الى غوركي ) , اي معتبرا ان بوشكين هو بداية اللغة الروسية المعاصرة, وذلك موجود ومثبت في المصادر السوفيتية التي درسناها آنذاك في حينها , اما ستالين , الذي اصدر في حينه كتيبا بعنوان – ( الماركسية وقضايا علم اللغة ), والمترجم الى اللغة العربية , والذي ذكرته كل المصادر السوفيتية طبعا في حينها واشادت به ومجدته واعتبرته مصدرا اساسيا في علم اللغة اثناء تلك الفترة الستالينية المعروفة والمشهورة جدا في التاريخ الروسي الحديث ( وانعكس ذلك حتى في المصادر العربية حول الماركسية – اللينينة في حينها طبعا ), اشار ايضا الى ان روسيا دمرت النظام الاقطاعي و النظام الرأسمالي وأخذت تبني النظام الاشتراكي , الا ان اللغة الروسية المعاصرة التي تناولت كل هذه الجوانب المتعددة والمختلفة في مسيرة تلك اللغة وعبٌرت عنها لا تتميز او تختلف كثيرا عن اللغة الروسية التي كتب بها بوشكين شعره ونثره , وقد استخدمت مرة , في

بغداد , جوهر هذه الفكرة وروحيتها , وقلت في احدى مقالاتي دفاعا عن اللغة الروسية بالعراق في تلك المرحلة ( والتي كانت السلطات العراقية في تسعينيات القرن الماضي تنظر اليها على انها لغة شيوعية ليس الا ) الى عدم وجود لغة تحمل صفة ايديولوجية ابدا , وان هذا مفهوم خاطئ وساذج وسقيم , و ان تسمية اللغة الروسية بانها – ( لغة لينين ) لا يعني ابدا ان تلك اللغة ليست – في نفس الوقت – (لغة بوشكين) وعشرات , بل والمئات من الادباء و العلماء والمفكرين الروس الآخرين .

أحدث المقالات