الى الدكتور رائد فؤاد الرديني..
عرفناها ناقدة ً بتمييز وأقتدار..عرفناها شاعرة لها من الباسقات (مكابدات الشجر)..وهي من رأت كيف (البحر يصطاد الضفاف)..وعرفت انه لابد من( أندلسيات )لتضميد(جروح العراق) ولها من الازهرار( زهر الحدائق) وهي التي أنشغلت بالأغنية لتثلم السكين.. وفي حضرة مولاي..في مخاطباته ومواقفه ،صدحت ب(مخاطبات حواء)..
ولاأحدٌ سواها من أخذتنا الى هناك الى (مابعد الحزن) وهكذا أعطتنا درسا وهي تقبل كف العراق…ورأت الكلي لا الجزئي من خلال..(الحضور في البصرة).. ولم تكتفِ الاستاذة الدكتورة بشرى البستاني بكل هذا السخاء الشعري والمعرفي..هاهي تدحرج في فضاء التلقي (هواتف الليل) .قصص قصيرة مشعرنة في سردانياتها..مموسقة في وحداتها
السردية..وهكذا خلصت قصصا من افقية المنحى..
(*)
هذه القصص ألبوم صور عراقية..قصص اخذت من الفوتو ،فنيته الباذخة،لامهنيته المقولبة.. سألتقط قصصا تتوائم مع هوسي في التلقي..تعرضت قصة (الجنوب) الى تكرار قراءة مني..وهنا أسألني هل انحيازي الطبقي العمالي هو السبب؟ أم فرحي وانا التقط قصة قصيرة عمالية،فالعمال منذ سنوات طويلة لاوجود لهم في السرد العراقي!!
(لم يدرس الهندسة ليكون عامل بناء،لكن الأصرار على البقاء في الأرض أضطره الى الرضى بما يتاح من الاعمال ،ولم يكن أمامه غير نقل الحجارة والاسمنت،تسليح السقوف وأعمال أخرى سرية توكل له بين آونة وأخرى /ص 9-10)..يستوقفني هذا الحوار المشعرن بينهما
(سألته: هل ترى الخيول في مدينتكم أجنحة الملائكة؟
ضحك وأخبرها أنه يرى أجنحة الملائكة تظلله إذ يغطي شعرها الحريري وجهه،برائحته ذات العبير الكثيف ولونه البرونزي المائل للسمرة/ 9) وسيرورة القص سرعان ماتشتغل على المسكوت ..(تغمض عيناها المليئين بالدموع وتلصق وجنتيها بخشب المنضدة البارد،الليل قد توغل،وهي بأنتظار الفجر الذي سيأخذها الى الجنوب في مهمة صعبة)!!
والعامل متنوع المهام :
*يكدح…
*يناضل سرا…(وأعمال سرية توكل له بين آونة وأخرى،يغيب فيها عن زملائه أياما،ثم يعود بعدها متفائلا يواصل عمله معهم بحب،ويتقاسم واياهم الخبزوالبسمة والطرائف،لكن بساطته وعذوبته لم تنس أحدا منهم احترامه)
*مستشارها الأبداعي..(تنتظر رأيه بالخطوط والألوان كي تدفعها باللمسات الأخيرة نحو الأطر التي يعدها بيديه)
لكن هذا العامل ثمة ما يلاحقه..(بلاشهامة )
وإذا كانت المرأة الفنانة تقصد الجنوب لتكتمل بمن تحب،فأن الزوجة في قصة(توابيت) حين عاد الشهيد أسيرا(لم تستسلم للغيبوبة كما فعلت أمه وشقيقاته../13) بل (أندفعت تمرغ وجهها الدامع بكفيه كما كانت تفعل وهو عائد في اجازته دون تفكير بمن حولها)..في قصة (تسعة أبواب) المرأة تتحرك (تفك حزام الأمان،وتدفع كرسيها الى الوراء وتعود الى إغماض عينيها،فتبصره عبر شوارع الحياة متشبشا بكفيها كي يعبرا معاً،تسمع صوته عبر أزيز الطائرة يناديها، تلتفت الى الوراء…ظروف تلعب بلواعج قلبيهما معاً. يسألها عن معنى الظروف بلوعة فتصمت وينهمر بينهما المساء/15)
(*)
قراءتي ترى ان قصة (غربان) هي الضلع الثاني من مثلث قصصي يتكون من (الجنوب)(غربان)( ضياع) ..في قصة (غربان) نتذوق الياسمين المطعّم بالبنفسج.الياسمين أستعارة عن صلوات العشق بين عاشقين (عند الجبل كان موعدهما /16)..(يشم راحتها،تلثم أنامله،يخبىء رأسه في صدرها،تنام فوق ردائه)..ومثلما أختفى العاشق في
(الجنوب) سيختفي بالقوة العاشق في (غربان)..(فجأة ،أخذته ريح غامضة فغاب طويلا،وذبلت أناملها/16)..الوحدة السردية الأخيرة في قصة (غربان)..ستأخذ منحى آخر في قصة (ضياع) هنا سيكون التأويل الوحيد لهذا التضاد الاتصالي..في تفكيك سيميائية (الدار) (الطريق) (الكلام) في الوصول الى البيت..
(*)
شخصيا..أفق التلقي لديّ ينحاز لهذه القصة لمحمولها السيمولوجي وهو يحوّل العادي الى الأستثنائي..أقصد بالعادي هي محض (توصيلة) في السيارة، وهو محض حوار بين أثنين يتكرر اثناء السياقة….وهندسة سيرورة القص مدورة..
*السطر الثاني من القصة)كانت تتحدث بطلاقة وانفعال /29)
*السطر الأخير..(وسكتت طلاقة المساء )..نلاحظ ان الطلاقة الاولى حولت الجواني الى براني
*تحدثت : فعل براني..ولم يكتف فعل السرد ،بذكر الفعل بل ميزه بميزتين
*الطلاقة،وهنا كقارىء منتج تتداعى ذاكرتي الى نصف بيت للبحتري وهو يصف الربيع
(أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا)..والميزة الثانية هي
*الانفعال: كما يعلن، فأن الانفعال يضمر في طيته حزمة افعال..
في السطر الاخير،نلاحظ ان السردية الصغرى اشتغلت على البراني بفعل شمولي،فالجواني وهو يكبح..ينتج تبئيرا للبراني وهو تبئير ذاتوي حسي..يجرد اللحظة من صفوها الشعري..
القصة من عشرة أسطرمسكونة بشعرية النثر ومشحونة بسيميائية طرية..يستوقفني السطر الثالث)حينما وصل بها الى الدار ثارت فهي لم تنه كلامها بعد. والطريق الى بيتها يجب ان يكون أطول مما هو عليه الآن)..من هذه الوحدة الصغرى..يمتشق تلقي النص لدي تضادا اتصاليا بين : الكلام/ البيت..
وهناك علاقة عكسية بين : الطريق/ الكلام..
فالكلام أطول مسافة من الطريق الذي قطعته السيارة..
الأنثى : سلطة الكلام
الذكر: وعاء الأصغاء
والأنثى هنا تكسر النسق الشهرزادي ،الذي يتوقف بثه عند بياض الصباح..الأنثى في (ضياع)..يستفزها وصولها الى البيت( حينما وصل بها الى الدار ثارت فهي لم تنه كلامها بعد).. وهذا الاستفزاز بدوره يستفز التلقي عندي وأصوغ استفزازي بسؤالين:
*لماذا الانثى لم تقطع البث ،ثم تستأنفه في وقتٍ لاحق؟!
*هل محظور عليها أستئناف الكلام معه في البيت؟أعني هل لا يحق له دخول البيت الذي تعيش هي فيه؟ ويتلون الحديث بنكهة البيت؟
في السطر التالي سنحصل على نقلة في المكان /الحدث..(قال : إذن ندور مرة أخرى) يليه السطر التالي..(دارا حول البيت كثيرا..)..يتواصلان بالدوران الأنثى تبث كلامها والرجل يبث إصغاءه.. هما في دورانهما لم يبتعدا عن جغرافية البيت الخارجية.. فهما حركتهما حركة مروحية..:المروحة تدور في المكان وليس خارجه..دائرتها ثابته..وليست دوائر متداخلة تشتغل على التجاوز دائريا….وهذا الدوران حول….يهيئ حيزا لأستئناف الكلام ربما بسبب الانشغال في انتاج الكلام.. .. هل مُحي مكان البيت من ذاكرتها..هذا الأمحاء على مستوى الذاكرة يشغل وظيفة معادل موضوعي للشفاهية التي أصرت الأنثى عليها وفضلتها على قطع البث ودخولها لبيتها..لكن ضياع البيت أدى الى تعطيل فاعلية الكلام..فالكلام كان بثه مشروطا بالطريق المؤدي الى البيت،وحين تعلق فينومينولوجيا هذا الشرط بسب ضياع الطريق والمؤدي بالتالي الى عدم الوصول الى بيتها..انتهت أهمية الكلام وحلت بدلا مهمة البحث عن البيت..(وكان عليهما ان يعاودا البحث من جديد،لكن الحديث كان قد انتهى…)…..وضمن افقي في التلقي تداعت هذه الأسطر من السهروردي(أنا ثملٌ وأنت مجنون/ فمن يوصلنا الى بوابة المنزل) ومن هذه الأسطر الشعرية ،صاغ نجيب محفوظ أحدى حكايات حارتنا…
(*)
الدرس النصي في قصة (ضياع) يمكن ان يكون كالتالي : الأثنان انشغلا بالشفاهي وأبتعدا عن الفعل الضروري؟ والضروري هو ان يجري الكلام في بيتها ولكن المسكوت عنه في النص يعلن :في بيتها ممنوع مثل هذا الكلام، إذن ثمة سطوة قمع تتحمل مسؤولية ضياع البيت..وثمة ما يشبه المفتاح لشفرة، سألتقطه من آخر سطر في قصة (هندسة)..(هذا جيل جديد يعرف كيف يهندس مفرداته فهل سيجيد هندسة أفعاله كذلك /39)..
(*)
للقمع تنويعاته فالعائلة ليست بعدد افرادها بل بنوعية الاتصال الاجتماعي..في قصة( السكين) ثمة زوج وزوجته في سيارتهما(هي في وجعها،وهو في مشاريعه :اليابان، كوريا، الصين ،تايلاند، صفقات تجارية من هنا وهناك،لم يكن يميل الى مشاركتها الحديث عن اي شيء،وهي لم تفعل ذلك ،فهي تتقن ادراك الحدود بذكاء/33) ثم تنتهي القصة بهذا السطر والزوجة وحدها في المستشفى..(ولاأحد..زوج،وأولاد، وأخوة، وأخوات،ولاأحد غير كف زميلة تقاسمها المكتب في الأسبوع مرتين )..إذن لابد من ضوء في نهاية النفق ضوء الزميلة أو ضوء(صوت ملائكي بوجه وردي وأنامل ناعمة بوجهها وشعرها بشقاوة محببة وجملة أثيرة تداوي ذلك الفراق البعيد../62)…
*البيت : قيد التهديد..
لايعيش البيت حياة آمنة مطمئنة في(هواتف الليل)…
*(البيت يهتز،زجاج النوافذ يتساقط ،الدم يضرج وجه الفتى وصدره،الأم تصرخ…/80/ العين اليمنى)
*(ألتفتت شرقا وغربا فرأت ألسنة اللهب تتطاير بأشلاء أهلها ،لحما بريئا ودما يعفر الأفق/82/ السيدة)
*(سينسفون البيت ياأمي وأنت؟ وأطفالي…؟/ ص88/ غروب)
*(يفتشون الدار غرفة غرفة وشبرا شبرا وبسكاكين حادة يقعون على الآرائك تشريحا../95/ السياج)
*وقد يبقى البيت كبناء هندسي..لكن( على حين غرة توقف المارة وأظلم المكان بانفجار ودخان واختلاط اصوات وارتطام أجسام ،ثم غاب كل شيء/ 90/ الكابوس)
*وقد يكتمل البناء الهندسي على أروع مايكون..لكن (الصمت مهيمنا على زوايا بيتها الكبير/ 77/ فرسان الملكة)
*نسوية البيت،مشروط بالحرب..(الحرب جعلتنا ضعفاء في بيوتنا،فنساؤنا يتحملن كل مسؤوليات الحياة الأسرية،أعباء البيت ومعضلة الاولاد والحياة /69/ زواج)
*والبيت مشروط بقسوة الحرب ،قسوة لاتكتفي بتقتيل ماتراه العين،لاتكتفي بتعطيل الآنية..بل هي تمسخ المستقبل وتنتج النكوص..فطراوة تلك العروس بإحالاتها التكرارية الرباعية النسق
*العروس الصغيرة…
*العروس التي لم تصدق…
*العروس التي حرصت أمها…
*العروس التي أحبت زوجها…
هذه الإحالة التكرارية التي تثبت مفردة (العروس) وتغيير المسطور بعدها..وهي في كل نسق توّسع من فضاء اللقطة،كما يفعل المصور السينمائي في المشهد لألفات نظرنا،لما سيجري بعدها وهنا تكون للأحالة التكرار،وظيفة أخرى ،أعني تشتغل كفعل استباقي لما يجري..وهذا مانلمسه في النسق الخامس..حيث نكون مع العروس وقد اصبحت أما…!!(أنجبت طفلا بلا يد ولاساق/68)وسأقرأ الجملة الفعلية هكذا (الحرب أنجبت العروس طفلا بلا يد ولاساق )..فالطفل نتيجة تسببها الحرب…
(*)منتجة هذه السردانيات..لاتقف عند هذا الحد…فهي تعرف منازل القمر، لذا تهبنا قصصا من القداح والقرنفل والجوري ومنها القصص التالية:
* (موعد)..(وجدته أمامها فارعا يبتسم،ويقول : ها أنا ذا..فجأة ..تدفق الماء في الأصابع،وأنسابت غصون السواعد /63)
*الغصن البعيد..(هل تريدين ان نكون أقرب…! ثلاثون عاما ما بيننا،أنا في الستين وأنتِ في الثلاثين، قالت : أهو توافق أعمار أم توافق إرادات وأرواح..؟/75)
*بلابل ملونة..(نعم كنت بحاجة الى من يبدد الصمت ولهؤلاء وحدهم أوكلت المهمة /77)
*الجنة..(أبتسمت وأغمضت عينيها،لم يجفها النوم هذه المرة .إذ أفاقت في الصباح وجدت غرفة نومها مضاءة والهاتف مفتوحا ،وكل شيء يموج باطمئنان /87)..
حاولتُ عبر هذه المقبوسات المقوسات ،ان التقط أزهرار الاتصاليات الناصعة بين حواء وآدم بطبعاتها المنقحة والمزيدة..وعبر هذا الناصع الأتصالي..لن نرمم بيتا..بل نشيد وطنا وفق مقاساتنا..نحن الذين واللواتي….لانتوقف عن صناعة الفرح العراقي وتوزيعه ملكية عامة بشرط الاستحقاق الوطني..
———————————
*بشرى البستاني/ هواتف الليل/ قصص قصيرة/ دار دجلة/ عمان / ط1/ 2012