18 ديسمبر، 2024 11:59 م

وأخيرا… ضاعت لحانا

وأخيرا… ضاعت لحانا

(كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) قالها وقلبه يتفطر حنقا على اولئك الذين يتباهون ويتمايلون ويتفاخرون حينما يسمعونها من السذج البسطاء… (علي وياك علي) يا لها من حماقة ويا لها من سذاجة ويا لها من تسطيح شديد للأمور، كيف يكون أمير الفقراء والمساكين مع هذه الشرذمة الوسخة من شذاذ الآفاق الذين لا نفع لهم ولا طعم ولا لون ولا رائحة يرتجى من وجودهم الثقيل الذي اثقل ليس كاهل البشر، بل ان الحجر والمدر والجبال والسهول ضجت وسئمت من أولئك الذين يخونون العهد، ويضحكون على الذقون، وأقوالهم في واد وأفعالهم في واد آخر، تراهم يتصفون بالأضداد، فهم المعزون في المواكب، الطباخون في المآتم، والخاشعون في الصلوات، وفي الوقت نفسه الكناسون لخزينة الدولة، المتآمرون على الشعب، والعملاء لدول الجوار…
ـ ما بك وانت متضجر الى هذا الحد، تتمتم مع نفسك وتصرخ مع الآخرين، ماذا دهاك، لعلك باخع نفسك ولكن دونما أمل يرتجى من جماعة قد باعت نفسها للشيطان، وانتزع من قلبها ما تبقى من الرحمة والشفقة والعرفان، وباتوا لا ينظرون الا بمنظار الأنا، وما سواهم قدّر عليهم ان يستمروا بالتصفيق وبإطلاق الشعارات الفضفاضة: (بالروح بالدم نفديك يا فلان) في الماضي و (علي وياك علي) في الحاضر، وحري بهم ان يفتدوا امامهم الذي لم يكتف من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، لا ان يفتدوا الذين اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا!.
ـ كيف بي وأنا اواجه هذا السواد من الهمج الرعاع الذي يصفق لجزاريه، ويهرول وراء الذين باعوا الدين والعرض والمقدسات بعرض من الحياة الدنيا، وبنزوة من حطامها الزائل، عسى ان يلتفت اولئك المصفقون والمهرولون الى ما يحاك ضدهم من مؤامرات حزبية واقليمية ودولية، باتت تهدد ما تبقى من حضارة عريقة ضاربة في جذور التاريخ والقدم لأكثر من ستة آلاف سنة مما تعدون، ويفرزنون الأمور ويتحولون من أمة القدوة الى أمة الفكر والمأسسة والقانون، وبذلك سيميز الخبيث من الطيب، ويعلم كل اناس مشربهم، فالإسلامي لمثله وأخلاقه، والسياسي لدهائه ومكره، والتاجر لتجارته، والعامل لعمله، والرياضي للعبه… حينئذ سيخبو نجم اولئك الطارئين سياسيي الصدفة الذين ما زالوا يحملون المصحف الشريف بيد ويسرقون بيد أخرى، وربما يحتسون الخمر ويرتكبون الفواحش والجرائم ما ظهر منها وما بطن بباقي جوارحهم وجوانهم، والحديث الشريف يقول: حيثما تكونوا يولى عليكم…
ـ واستمر بالحديث لعله يشفي غليله مما يعتمل صدره من كوابيس تتقاذفه ذات الشمال وذات اليمين، وقد اصابته نوع من الهستريا وهو يولول كالسليب: عجبا لما أراه في بلاد الرافدين، مجموعة تنادي بالمشروع الاسلامي وهي تسحقه بفسادها، وأخرى تذبح الأبرياء وهي تنادي الله اكبر،  واضحى الشعب كالذي تزوج بامرأتين إحداهما اسمها حانة والثانية اسمها مانة، وكانت حانة صغيرة في السن لا تتجاوز العشرين بخلاف مانة التي كان يزيد عمرها على الخمسين والشيب لعب برأسها.
فكان كلما دخل إلى حجرة حانة تنظر إلى لحيته وتنـزع منها كل شعرة بيضاء وتقول: «يصعب عليَّ عندما أرى الشعر الشائب يلعب بهذه اللحية الجميلة وأنت ما زلت شاباً» فيذهب الرجل إلى حجرة مانة فتمسك لحيته هي الأخرى وتنـزع منها الشعر الأسود وهي تقول له: «يُكدِّرني أن أرى شعراً أسود بلحيتك وأنت رجل كبير السن جليل القدر».
ودام حال الرجل على هذا المنوال إلى أن نظر في المرآة يوماً؛ فرأى بها نقصاً عظيماً، فمسك لحيته بعنف وقال: «بين حانة ومانة ضاعت لحانا».
ـ حينها تذكر ان القدوة التي انخدع بها طيلة الفترة الماضية هي نفسها حانة ومانة، فقرر قراره الحاسم…