23 نوفمبر، 2024 1:44 ص
Search
Close this search box.

سايكولوجيا الخذلان: لماذا يلتحق ثوار سوريون بـ(داعش)؟!

سايكولوجيا الخذلان: لماذا يلتحق ثوار سوريون بـ(داعش)؟!

مـجتمعات كثيرة تـمر بـحالات من الخذلان الحضاري، وهذا بذاته لا ينطوي على مأزق أبدي ما دام الأمر متـعلقاً بظروف تاريخية مفروضة ونتائج مؤقتة يمكن تجاوزها، لكنَّ الأمرَ يُصبح مأزقاً عندما يتحول الخذلان ذاته إلى ثقافة، ثقافة تجد من يدافع عنها ويبـررها، بل ويبتكر لها نظريات على غرار نظرية المستبد العادل كما كان الأمر أيام الديكتاتورية، أو تبرير النفوذ الإقليمي والدولي داخل العراق الذي تكرّس بعد إنهيار مؤسسات الدولة في أعقاب الاحتلال الأمريكي 2003!

وإذا كانت تناقضات الواقع العراقي واضحة ولا يمكن تغطيتها قبل 2003، فإن سقوط الديكتاتورية وانهيار الدولة أدى إلى ظهور هذه التناقضات والمظالم دفعة واحدة وبطريقة لم تستطع الأحزاب المتنفذة استيعابها والتعامل معها بطريقة تجعل تلك التناقضات والمستجدات تحت السيطرة، ليس بسبب تفكك أجهزة الدولة فقط، بل وأيضاً لأن هذه الأحزاب تعاني تاريخياً من الخذلان ولذلك فهي فاقدة القدرة على المبادرة الحضارية.

إن استمرار الاستبداد لأكثر من أربعين سنة، بما فيها من حروب وقمع منظم جعل (مديرية الأمن العامة) ترفع شعار: (إذا لم نجعل من كل مواطن شرطياً، سنحتاج إلى شرطي على رأس كل مواطن)! إذ أصبح إقلاق المواطن من دون سبب وارعابه

أو ابتزازه مالياً (خصوصاً خلال سنوات الحصار الاقتصادي التي استمرت 13 سنة) من الممارسات اليومية للبعثيين وشرطة الأمن! ناهيك عن انهيار العملة وكساد سوق العمل وما نتج عنهما من حرمان جماعي وضياع لم يسبق للعراقيين أن جربوه من قبل.

كل هذا وسواه أدى إلى تفكك منظومة القيم الاجتماعية التي كانت سائدة لفترات طويلة والمنطوية على توازن أخلاقي مقبول نسبياً، الأمر الذي كرّسَ الخذلان وحوّله إلى مهانة يومية ومرارات استنزفت روح الإنسان العراقي وعقله، وهذا ما عاناه البعثيون أنفسهم أيضاً، إذ جعلتهم أجهزة صدام عبيداً يُنفذون ولا يناقشون خوفاً من العقوبة! بل ويخاف بعضهم من البعض الآخر دون أن تغيب عن أذهانهم مشاهد الإعدام الجماعية لقادة حزب البعث في أعقاب المؤامرة المزعومة 1979، ناهيك عن تورطهم المستمر بدماء العراقيين وعذاباتهم المعروفة!

لقد أصبحت الدولة وأجهزتها معملاً لإنتاج الخذلان وتعميمه على الجميع، وهذا الخذلان المترسّخ ضمناً في نفوس البعثيين هو الذي دفعهم بعد 2003 للترحيب بإرهابيي القاعدة والإستعانة بالدول المتضررة من التغيير بالعراق، وخصوصاً النظام السوري! الذي أرسل آلاف من الإرهابيين مع سياراتهم المفخخة حيث تلقوا كل أنواع التدريب في قواعد المخابرات السورية، وكان كل هذا قد جرى بعلم ودعم المخابرات الإيرانية طبعاً، الأمر الذي حوّل العراق ساحة مفتوحة للإرهاب والدمار بشكل متواصل. لقد أدى شيوع الرعب والخراب إلى ردود فعل اجتماعية تتراوح بين السلبية المطلقة التي وصلت لحد الهروب الجماعي من العراق تخلصاً من الموت اليومي المجاني، وبين العسكرة المضادة متمثلةً بالميليشيات التي يعرف الجميع إنها تُسلّح وتُموّل من قبل إيران أيضاً!! لتنفيذ مخطط الولي الفقيه علي خامنئي وهو الهيمنة على العراق وتدميره بإيدي العراقيين أنفسهم، ما جعل السيطرة على الوضع العام من قبل أجهزة الدولة الوليدة أمراً صعباً حتى لو أرادت ذلك.

ومقابل هذا التنكيل الرهيب بالشعب العراقي المظلوم، لم تستطع سلطة الأحزاب الدينية التخلص من خذلانها المتوارث وتخاذلها المشؤوم أمام النظامين الإيراني والسوري، وإذا كان وليد المعلم قد قال بصريح العبارة: (العراق هو الرئة التي يتنفس

منها الاقتصاد السوري)! فإن عبارة نوري المالكي الديكتاتور الفاشل بعد اندلاع الثورة السورية: (بشار الأسد لا يسقط ولن يسقط ولماذا يسقط؟) كانت التعبير الأكثر انحطاطاً عن الخذلان القابع في أعمق أعماق قادة الأحزاب الدينية.

وكنتيجة فإن سياق الرعب والخذلان هذا، أدى إلى صعوبة إنتاج ظواهر سياسية أو ثقافية ديمقراطية بديلة، فاستمرت الريبة والتصادم بين الأطراف العراقية المتصارعة، ما أدى إلى تكريس سايكولوجيا الخذلان عند هذه الأطراف التي وجدت نفسها في خضم لعبة سياسية أكبر منها مجتمعة، فتعمّقَ اليأس والسلبية في وعيها ومواقفها جميعاً، الأمر الذي يتجلى بسلوكها السياسي المشين بدءاً بالفساد والشهادات المُزوَّرة وليس انتهاءً بالتفريط بسيادة العراق لمصلحة قوى إقليمية ودولية معروفة.

أما على الصعيد الاجتماعي فكان الشعور بالخذلان أكثر قسوة، خصوصاً مع تكريس مبدأ المحاصصة الذي عوّق المشروع الديمقراطي وعطله، وعطل معه التنمية الاقتصادية وسوق العمل إذ حوّلت الأحزاب الدينية والكردية العراق إلى بلد استهلاكي حيث أصبحت التجارة الخارجية بيد قادة هذه الأحزاب الذين أصبحوا من أصحاب المليارات فعمَّ الحرمان بأشكاله المختلفة وحلَّ الفساد محل السياسة! وضمن هذا السياق تقول بعض البحوث أن 360 أمرة تُقتل أو تنتحر في إقليم كردستان سنوياً، بينما شاع الانتحار في بعض مدن الجنوب في حين بلغت معدلات الطلاق السنوية نسباً غير مسبوقة !

وبينما تستمر الأطراف السياسية في تناقضاتها، أصبح للخذلان سلطة تنتقل بالعدوى إلى مشاعر المواطنين والسياسيين فتربك وعيهم وتـهيمن على طريقة حياتهم، فتتدخل لغة الخذلان في جوهر الأشياء والعواطف وردود الأفعال وتفاصيلها، ما جعل المجتمع أشبه بجزر معزولة، فهناك المستفيدين من كل هذه المعاناة، وهناك أثرياء الفساد من السياسيين والإداريين الذين تحولوا إلى ظاهرة خطيرة، إذ عطلوا الصناعة والزراعة وأصبحت مفاتيح التجارة الخارجية بين أيديهم محولين العراق إلى بلد استهلاكي كما هو معروف.

لقد أصبحنا أمام ظاهرة السياسي التاجر والوزير التاجر والضابط التاجر والمُعمم التاجر والبرلماني التاجر والإعلامي التاجر، وهؤلاء جميعاً لا يتاجرون بالبضائع

الاستهلاكية فقط، بل يتاجرون أيضاً بأرواح الناس ومصائرهم، بالوظائف الادارية والامنية التي تباع وتشترى، وبسيادة العراق وأمن شعبه، وما تهريب الإرهابيين من السجون بإشراف أجهزة المالكي وعلمه، والذي تكرر مراراً، وجريمة قاعدة سبايكر إلا أمثلة صارخة لما وصلت إليه الأمور في ظل حكم الأحزاب الدينية، حكم المخذولين وجدانياً وعقلياً وسياسياً، وإلا هل يمكن أن يكون هؤلاء القوم طبيعيين وقد أوصلوا بلادهم إلى الحضيض؟! إنهم يزدادون زهواً مهتمين بأناقتهم وتصابيهم وصبغة شعرهم بعد أن بلغوا من العمر عتيا، هاملين العناية بضمائرهم ووجدانهم بطريقة مثيرة للاستغراب حقاً.

ومقابل هؤلاء نرى الوجه الآخر للخذلان، فهناك من يبحث عن لقمة العيش دون جدوى، وهناك خمسة ملايين أرملة ويتيم يتعرضون لشتى أنواع المهانة والابتزاز، وهناك عشرة أجيال من خريجي الجامعات عاطلين عن العمل دون أن يتظاهروا أو يحتجّوا! وهناك من هو مذهول من كل ما حدث ويحدث دون أن يُحرّك ساكناً، ولكن أيضاً هناك حراك سياسي يتمثل بالرافضين لكل هذا الظلم والجور رغم قلتهم وتقطّع حركتهم. إن الخذلان هو القاسم المُشترك بين هؤلاء جميعاً.

إن سايكولوجيا الخذلان ما زالت تفعل فعلها معوّقةً حركة التاريخ ولهفة المجتمع للتغيير، ومع استمرار الصعوبات نجد أن هناك من أصبح يفتش عن (منقذ) أو ما يسميه البعض بـ(الشخصية الجامعة) متغافلين بأننا نعيش في عصر دولة المؤسسات وليس عصر الأبطال الأسطوريين. فالشخصية الجامعة من هذا النوع لا يمكن أن توجد، لأنها شخصية غير واقعية، فلا يمكن توحيد مجتمع يعاني أنواع الانقسامات وراء شخصية واحدة، أو قائد أوحد، بل يمكن توحيد المجتمع على مبادىء وطنية عامة يُفعّلها النظام الديمقراطي ودولة المؤسسات.

إن أولئك الذين ينتظرون (المنقذ) إنما يحنّون إلى عهد الديكتاتور مؤكدين تراكم الخذلان في دواخلهم، إنهم يفعلون ذلك بمشاعر لا يدركونها ربما، إنه الإدمان على العبودية للحاكم المطلق الذي حلَّ محل الدولة حيث بيده جميع الصلاحيات التي تجعله يقوم بكل شيئ بالنيابة عن الجميع! فهو الذي يوزع البيوت على المواطنين ويبني المدارس والجامعات ويوزع الأعطيات على المتضررين ويقود الحروب ويعدم

الخونة ولذلك تجد صوره في كل مكان! إنه الخدعة التي تُرضي المخذولون! فيحنّون إليها إذا غابت!

ليست نظرية الـمستبد العادل جديدة، بل هي قديمة قدم الخذلان ذاته، والغريب هو إن مثل هذه النظريات تجد من يُصدّقها رغم ما تنطوي عليه من تناقض في اللغة والمنطق، حيث لا يمكن أن يُجسّد الـمرء الشيء ونقيضه في الوقت نفسه (الاستبداد والعدالة)! إنما هي ثقافة الخذلان تتحرك داخل النفوس لتبرير الخضوع والمهانة أمام المستبدين.

إن أية قراءة لنتائج الانتخابات العديدة التي جرت في العراق خلال العشر سنوات الأخيرة، تؤكد هيمنة سايكولوجيا الخذلان على المجتمع، وبضمنه جمهور الناخبين. فقد ظلوا ينتخبون نفس القوائم ونفس الوجوه التي أذلتهم ونهبت ثرواتهم وصادرت حقوقهم وتركت أولادهم من دون مدارس وشبابهم من دون عمل وبلادهم من دون كهرباء، بل وجعلتهم يعيشون من دون أمان على أنفسهم إذ أصبحت عصابات داعش وسواها قادرة على احتلال محافظات كاملة وطرد القوات المسلحة منها وقتل وسبي أهلها! رغم كل هذه الجرائم يعود العراقيون في كل مرة وينتخبون هذه الوجوه نفسها، فهل هناك خذلان أكثر من هذا ؟!

لقد أصبح الخذلان قاسماً مُشتركاً بين الحاكم والمحكوم! وربما يكون كلُّ هذا مفهوماً عندما تتخذ الأمور وجهةً معينة قد تؤدي إلى تخفيف المظالم بالتدريج، لكن ما هو غير مفهوم هو أن نعيش في عصر إنكشفت فيه جميع الأباطيل واصبحت الأشياء تسمى باسمائها سلباً أو إيجاباً، رغم ذلك نرى من لا يزال يجد متعة في الخضوع لمنطق الإرهاب والانخراط في صفوفه رغم عدميته! أو الانخراط في صفوف أحزاب وحركات تريد إحلال السلاح محل الحوار الديمقراطي دون التفكير بالعواقب الكارثية التي يمكن أن تحل بالبلد جراء تكريس ظاهرة الميليشيات (التي تموّلها وتحرّكها إيران) في ظل ضعف الدولة أو تغاضيها!

إن الخذلان المتراكم خلق لنا أشخاصاً وجماعات وأحياناً حركات سياسية تحيا على مفاهيم ونظريات تتناقض مع تعاليم الأديان السماوية والفلسفات الحقوقية والأخلاقية بسبب فسادها وعدميتها، حيث لم يعد ثمة فرق بين شجاعة العقل وبين اضطراب

المشاعر المخذولة، ما جعل المجتمع في حالة نكوص وتراجع، وجراء ذلك شاعت ظواهر كثيرة في غاية العدمية والاضطراب بينما أصبحت حكمة السياسيين هي: (السياسي الذكي هو من يوظف الأحداث لمصلحته)! أي إذا استمرت وتصاعدت المجازر اليومية جراء العمليات الارهابية، واستمرت فضائح الفساد، فإن على السياسي ألّا يهتم بمقاومتها أو التخفيف منها، بل كيف يوظف هذه المآسي والأزمات لمصلحته الشخصية والحزبية! وهذا ما معمول به في الواقع! فهل هناك انحطاط أكثر من هذا؟!

وإذا كانت مأساة الموصل 9-6-2014 تدل على تسرب ثقافة الخذلان إلى ثكنات الجيش ونفوس بعض القادة، فإن فضيحة مجزرة (قاعدة سبايكر) التي ذهب ضحيتها أكثر من 1500 مواطن، تدل على تعفّن الثقافة السياسية وأجهزة السلطة وتحول الخيانة والغدر إلى طبيعة مترسخة داخلها إذ أصبحت تُنكل بالشيعة والسنة، بالمسلمين والمسيحيين، بل وتتاجر بدماء المواطنين وبأشكال شتى، لاسيما وإن جهات رسمية بدأت تُحيل سبب مأساة سبايكر إلى غباء الجنود الذين غادروا القاعدة! وهذه هي بداية تبرئة الخونة الذين غدروا بالضحايا، وهذا أمر ليس جديداً في ظل حكم الأحزاب الدينية المُنحطة، وإلا هل تمت محاكمة الضباط المسؤولين عن تهريب السجناء المدانين بجرائم الارهاب، عمليات التهريب التي تكررت في العديد من سجون العراق؟!

إن كل هذا وسواه يدل بوضوح على هيمنة الخذلان، خذلان العقل والضمير، على المجتمع السياسي العراقي وتحوله إلى مرض خطير.

أما في سوريا فإن الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت بالعراق، الديكتاتورية وحكم الاجهزة الأمنية، هي نفسها سائدة في سوريا، ولذلك فهي تُنتج نفس الظواهر سلباً وايجاباً. إن انتقال مئات المقاتلين من صفوف الثورة إلى تنظيم داعش الإرهابي، خلال آب (أغسطس) 2014، ما هو إلّا تعبير عن تحول الخذلان إلى عدمية سياسية قاتلة! إلى اضطراب يجعل المرء لا يفرق بين الأسود والأبيض! وإلا كيف يمكن أن ينتقل هؤلاء الثوار إلى صفوف داعش! وفي لحظة أجمع فيها العالم على ضرورة تصفية هذا التنظيم الهمجي!

إن هذا التحول يلحق أكبر الضرر بسمعة الثورة السورية وكفاحها العادل من أجل الحرية والكرامة بينما يُعطي المزيد من الأوراق لسلطة بشار الأسد بعد أن سقطت سياسياً وأخلاقياً بنظر المجتمع الدولي!!

إن الإنسان أو المجتمع المخذول إذا طال خذلانه ولم يجد أملاً في الخلاص، فإنه ينقلب ضد نفسه وضد الآخرين، أي يُصبح عدمياً. إن منشأ وآلية وتأثير ثقافة الخذلان على الشعوب المظلومة، يحتاج لدراسات عميقة ومتعددة لفهم آلياته ونتائجه وكيفية الخلاص منه. وربما يتوجب علينا نحن العراقيين والسوريين دفع أثمانٍ أضافية جراء الغياب الطويل للعدالة وتغييب المعرفة العلمية والبرامج التربوية التي من شأنها جعل الإنسان والمجتمع قادراً على التمييز بين الحكمة السياسية وبين ثقافة الخذلان.

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات