26 نوفمبر، 2024 9:43 م
Search
Close this search box.

التقيؤ الوطني!!

التقيؤ الوطني!!

الأوطان تعيش في أعماق أبنائها , قبل أن يعيشوا فيها , إنها حالة نفسية فكرية وجدانية روحية موروثة , فلكي تكون منتميا للوطن لابد للوطن أن يكون فيك.
ولكي تعادي وطنك يجب أن تتقيأه أولا , وتفرغه من دنياك , وتستحضر الطاقات العاطفية والإنفعالية اللازمة لتعزيز طرده , وإدامة حالة الإستفراغ الوطني المطلوبة لتحويلك إلى عدو لوطنك , وما فيك من الطاقات الفكرية والثقافية والروحية والإنسانية , وذلك بإقرانها بالوطن المُتَقيّأ.
فكيف يتقيأ الناس أوطانهم؟
هناك الكثير جدا من المقيَّئات الوطنية , التي يتم العمل بموجبها لتطهير الأعماق البشرية من أوطانها , والشائع منها أن تسقي الناس مادة مقيّئة وتكرر ذلك حتى تتطهر أعماقهم من الوطن , فيتحولون إلى كرة متدحرجة تركلها أقدام المصالح والتطلعات الإفتراسية في غاب الوعيد الحضاري.

وتقنيات تحقيق إنتزاع الوطن من البشر تكاد تكون متشابه بآلياتها وقوانينها وقواعدها , وخلاصتها أن تضخ الأعماق بأحداث إضطرابية عنيفة مُزعزعة لكل ما يمت للوطن والإنسان بصلة , مترافقة مع شحنات عاطفية شديدة جدا , ومُنفرة من الوطن وما يرتبط به , وبتكرار هذه الآلية يتحقق ترسيخ فعّال ومؤثر لطرد الوطن من دنيا الإنسان , فيترك الجَمل بما حَمل , ويمضي هائما في أرض تزداد ضيقا أمامه , لأنه لا يمكنه أن يحقق إحلالا وطنيا بداخله , فما فيه من موروثات كامنة تلسع أعماقه وتدمي دنياه الداخلية , فينزف روحه على سفوح الأيام.

وما يجري في العديد من المجتمعات لَهُوَ تطبيق شرس لآليات تطهير الأعماق البشرية من أوطانها , والإستحواذ الوحشي عليها , وإمتلاكها بالمطلق.

وتبدو الحالة وكأنها وسيلة تجارية مهينة , فالمُشتري يحاول أن يوهم البائع بأن بضاعته فاسدة , ولا تصلح للشراء والمنفعة بل ويبرز عيوبها ونواقصها , حتى يجعله يبيعها بأبخس الأثمان , وربما يرميها في الشارع , فيفوز هو بها.

ووفقا لهذا المنطق , يمكن تحويل الأوطان إلى أوعية للويلات والملمات والتداعيات والآثام المتوحشة الفتاكة , التي تحيل الأيام فيها إلى جحيمات مستعرة , ومواطن للخوف والرعب والهلاك , حتى ليخشى البشر من البقاء حتى في بيته , لأنه لا يدري متى ستزوره وحوش الغاب الشرسة , المُضَللة بالأوهام والتوجهات الدموية , وعندها يكون الوطن مصدرا للمشاعر السلبية والتداعيات السيئة , التي تمنع جميع الخيارات البقائية وتدفع إلى الرحيل والهجرة.

ومن الواضح أن أبناء المنطقة العربية يرزخون تحت ضغط هذه الآليات , التي تريدهم أن يَسْتفرغوا أوطانهم , وتصغيرها عندهم , بل وتحويلها إلى عدوة لهم , فيأخذون بمقاتلتها , وتدمير ما فيها , وهم يَستجمعون الأسباب والمسوغات التي تديم سلوكهم العدواني ضدها.

ولا ننسى دور الإعلام الفعّال في تنمية قدرات إقتلاع الأوطان من أعماق مواطنيها , وحفر الخنادق العميقة ما بين الوطن وأهله.

ولا بد من الإنتباه للمُقيّئات الوطنية المدسوسة في الطعام والشراب , والتي تتسرب إلى الناس عِبر جميع حواسهم , ووسائل إتصالهم وتواصلهم.

وعندما نتساءل عن الحل , يكون الجواب واضحا , ومعروفا , وهو الإعتصام بالوطن , والإبتعاد عن كل ما هو دونه من التوصيفات والمسميات , لأنها الوسيلة الكبرى لصناعة جميع أنواع المُقيّئات.

فالوطن لا يتقيأ أبناءه ولكن الأبناء يتقيؤن وطنهم , أو يُرغَمون على ذلك لتهاونهم بإعلاء شأن وطنهم , وإندساس مفترسيهم بينهم.

وعندما يتحول الوطن إلى مصدر للآهات والأوجاع فأنه يخسر ويخسر أهله كافة.

فهل سيربح الوطن وأهله أم سيعجز الناس عن إيقاف نواعير الثبور؟!!

أحدث المقالات