عندما بلغنا الثامنة عشر من العمر تم تبليغنا بوجوب مراجعة دائرة التجنيد لغرض الالتحاق بالخدمة العسكرية الالزامية , ولكوننا كنا طلاب التحقنا توا في الدراسة الجامعية فقد تم الطلب منا جلب كتب التأييد من الكلية , ووسط طوابير طويلة في الانتظار كنا نراجع سنويا لغرض تاشير تاجيلنا لحين انتهاء الدراسة او تركها وكان هذا المشهد يتكررسنويا , وحين اكملنا الدراسة تم سوقنا الى الموصل لاداء الخدمة العسكرية الالزامية وكان اغلبنا من اهالي بغداد أما الآخرون فهم من سكنة الجنوب والفرات وجميعنا من خريجي الكليات , وفي الأيام الاولى لالتحاقنا تلقينا دروسا غريبة في كيفية الالتزام بالانضباط العسكري الذي كان يسرق كثيرا من حرياتنا وحتى كرامتنا الانسانية , وكانت تنهال علينا عقوبات الهرولة والبروك والزحف والشناو بالجملة , وكان رئيس العرفاء ( ذنون ) يتذمر من طلب معاملتنا بطريقة خاصة لكوننا من خريجي الكليات ( وفي حينها كان للبكالوريوس شان مهم في العراق ) ولكنه لم يكترث لطلباتنا فهو دائما يردد عبارته المعروفة ( خريج مريج يشرب في البريج ) ,ويبدو انه سأم من طلباتنا المتعالية فعقد معنا ضابط التوجيه المعنوي ندوة وقد عرفنا ان هذا الضابط الذي كان برتبة مقدم هو خريج احدى الكليات العراقية وقد تطوع للخدمة للجيش بعدها لذلك استبشرنا خيرا بوجوده واعتقدنا بأنه سيتفهم طلباتنا المشروعة في تلبية بعض الحاجات الاساسية كوننا مثقفين ولكن تتم معاملتنا حالنا حال الاميين , وفي ذلك اللقاء عرض مقدمات مفادها ان البرنامج التدريبي في العسكرية لا يأخذ بنظر الاعتبار المستوى الدراسي والاجتماعي وأية اعتبارات اخرى وأختتم محاضرته بمقولة لم انساها ابدا في تعريفه للجندي اذ قال ان تعريف الجندي في العسكرية ( هو الكائن الحي المحصور بين البيرية والبسطال ) وعندما سالناه عن الكرامة الانسانية قال بالحرف الواحد ( انزعها في باب النظام ) , وحين حاولنا مناقشته في هذه المفاهيم أشار الى ( ذنون ) فصاح الاخير ( انهض ) ونفذنا الأمر على الفور وعندها فهمنا الرسالة بان العسكرية ليس فيها هامشا للاجتهاد والاستثناء وفيها قدرا من هدر الكرامة .
ومن تلك الايام نتذكر اننا كنا نقضي ساعات طويلة من الفجر وحتى العصر في التدريب والواجبات وقبل حلول الظلام كانوا يجلسونا على منطقة مرتفعة في المعسكر تطل على الطريق الرابط بين بغداد والموصل والعكس ومنها كنا نرى حركة السيارات الذاهبة صوب اهالينا في بغداد وسواها من المحافظات , وفي ذلك المكان الذي تم اختياره بقصد للتهذيب النفسي كان الكثيريذرف الدموع شوقا للاهل والاصدقاء فاغلبنا لم يتعود فراقهم وعدم اللقاء بهم الا في اجازة مدتها الخميس والجمعة كل اسبوعين وهي غير كافية لابن البصرة لكي يقضيها في السفر لقطع مسافة الف كيلو متر في الطريق , ومن تلك الذكريات ايضا اننا كنا جميعا نشترك في (القصعة) وفي توجيه المسبات والشتائم الى مدحت باشا لانه اوجد التجنيد الاجباري , ولم تفلح محاولات البعض في افهام الاخرين بان الباشا قد فرضها ولكنها فشلت ثم اعيدت مرة اخرى وفشلت الى ان جاء بها جعفر العسكري فالرأي السائد انها بذرته التي أبقاها في بال الذين تبنوها من جديد , ورغم كل ما عانيناه من الخدمة العسكرية الالزامية الا اننا تعلمنا الكثير من الدروس في انشاءالصداقات والتحمل واجادة الكذب للحصول على الاجازات كما تعلمنا التعاون في الملمات والاعتماد على النفس وكيفية الطبخ وغسل وكي الملابس والحنين الزائد للاهل والمحبين عند لقائهم بعد فراق , واذا كان هناك ما يفيد في الخدمة الالزامية التي كانت محدودة المدة وتستغرق قرابة العامين وبعدها يتم التسريح , فان الأمر يختلف جدا عند اداء خدمة الاحتياط لان عنوانها هو الخدمة لشهر او شهرين ولكنها امتدت لاكثر من سبع سنوات بسبب ظروف الحروب , وهدفها ليس تعلم صعاب الحياة والتدريب والخدمة في ظروف طبيعية وانما مواجهة الموت مما جعلها كابوسا لانها خلت من اية متعة سيما وان التخلف عنها يشكل جريمة قد تصل عقوبتها الى الاعدام .
ان ما اعادني الى ذكريا ت الخدمة العسكرية بحلوها ومرها ,هي دعوات بعض السياسيين لاعادة تلك الخدمة الالزامية الى الواجهة تحت مسمى المحافظة على الوطنية والمواطنة وكأن العسكرية العصى السحرية التي ستفعل فعلتها بعد ان اصبحت التفرقة منهجا للبعض في الحياة , فالمناصب توزع على المحاصصة والمذهبية والقومية واحاديثها تتردد علنية في وسائل الاعلام وفي التفاوضات الرسمية , والسؤال الجدير بالطرح لمن يريد اعادة الالزامية هل توجد معسكرات نظامية لاغراض التدريب والخدمة واغلب المقرات تمت حوسمتها وتحولت الى مساكن من باب الامر الواقع؟ , ومن باب المعلومة الاحصائية فان معدل السوق سيكون بمعدل 300 الف مشمول بالعسكرية سنويا فكيف سيتم ضمهم الى الجيش وتوزيعهم على الوحدات وادارة تجهيزاتهم وارزاقهم وشؤونهم الادارية وبلدنا لديه جيش يبلغ تعداده قرابة المليون من المتطوعين وهل العبرة في العدد الكمي ام في التدريب والتجهيز والعقيدة فاغلب الاسلحة التي يمتلكها جيشنا هي بندقية كلاشنكوف في حين ان الجيش الروسي ( مثلا ) لم تجرأ امريكا ( وهي اكبر قوة عسكرية حاليا) على التفكير في تهديده او مواجهته بعد احداث اوكرانيا رغم ان تعداد الجيش الروسي بحدود 850 الف عسكري .
ونقول نعم ثم نعم ان للخدمة العسكرية الالزامية فوائدها الوطنية والتربوية وفي الذود عن الوطن ولكن حين تتوفر الظروف المناسبة لهذا النوع من الخدمة , فجمع العراقيين من اطيافه الجميلة في معسكر واحد يتشاركون فيه الحب والولاء للوطن ويستفيدوا ما يستفيدون من تجارب في حياتهم لغرض صقل شخصية الشاب وامرارها بمختلف الظروف امرا حسنا , وهذا يمكن ان يتم بعد ان يؤدي السياسيون ما عليهم من واجبات في جمع اللحمة الوطنية وازالة الشوائب , فلو كانت الاجواء نقية لما استغرق تشكيل الحكومة غير ايام معدودة لان هناك محافظات خارج السلطة الاتحادية والمحلية والمعيق في التشكيل هو من يكون في المنصب السيادي وغير السيادي وكم هي الاستحقاقات وتقسيم المناصب الى فئات ونقاط , وهي امور تجعل العراقي المتلهف للعودة الى منزله بعد النزوح ينتظر وقتا اطول في ظل المجهول لان الامل بانتظار توافق الشركاء , واذا كنا لم نجد اساسا للاتفاق لحد الان على قضايا بالغة في الاهمية وتتعلق بالمصير, رغم ان الجميع ابناء لهذا الوطن العريق وبيننا مشتركات في التاريخ والدين والرب فكيف يمكن ان نتشارك في معسكرات للتجنيد الاجباري وما يجمعهم فيها هي لغة ( البيرية ) و( البسطال ) .
واذا تم تفعيل المادة الدستورية التي تجيز العودة الى الخدمة العسكرية الالزامية , فيجب ان نمهد لهذا الموضوع بشكل متكامل قبل الشروع به وفي مقدمة ذلك تحديد العقيدة العسكرية بما يجعلها وطنية بالكامل , فضلا عن تحديد المدرسة التي سيتم اتباعها فهل سنعود لكراسات التدريب التي انتجتها المطابع العسكرية خلال حقبة النظام السابق ام المدرسة الامريكية ام مدرسة تتم صياغتها لملائمة وضعنا المحلي , ناهيك عن توفير البنى التحتية من الابنية والتجهيزات ومواد التدريب والاسلحة والاهم من هذا كله القبول الشعبي بالخدمة الالزامية لكي لاتبقى اطارا يتم من خلاله دخول وخروج الفضائيين وانتشار الفساد الاداري ومطاردة المتخلفين والهاربين منها , ونود الاشارة هنا الى ان واحدة من امنيات العراقيين التي كانوا يتمنونها هي ازالة المظاهر المسلحة وعسكرة المجتمع ولكن الاخطار التي اجتمعت في العراق للحيلولة دون انشاء دولة ديمقراطية حديثة هي التي حفزت الحريصون على امن وسيادة ووحدة البلد واذكت فكرة التجنيد الالزامي , لكي تزداد الفة الشباب ويتقاربوا لبعضهم البعض كمحاولة لازالة الفرقة والتنافر وكل ما يفرقهم باعتبارهم ابناء لوطن واحد , فما نتمناه حقيقة ان ينعم شبابنا بالسعادة والرفاهية ويجوبوا العالم لقضاء اوقاتا جميلة ويتمتعوا بما حرمت منه الاجيال التي سبقتهم بسبب المغامرات والحروب بدلا من قضاء سنوات من عمرهم في العسكرية والمعسكرات .