ترف فكري أم حق دستوري؟!
الدستور هو العقد الإجتماعي الذي تتأسس وفقه العلاقات الإجتماعية والسياسية بين الدولة والأفراد, الدولة كحكومة ومؤسسات مختلفة, والأفراد كأشخاص ومجتمعات..غياب ذلك العقد يعني العودة إلى “ما قبل المجتمع” حسب (هوبز). وبرغم إختلاف (جون لوك, وجاك روسو) مع (هوبز) بخصوص الطبيعية البشرية الأصلية؛ غير إن فقدان العقد (الدستور) أو تعطيل العمل به, أعادنا إلى عصور لم تعهدها أشد المجتمعات وحشية, وعدوانية؛ فالإنسان أرخص السلع في سوق السياسة, ومحركها الديني أو المذهبي.
يقول جان جاك روسو: “إذا وجِد معارضون عند وضع الميثاق الإجتماعي فإن معارضتهم لا تُبطل العقد”. إذن؛ فالتصويت على دستور جمهورية العراق حدد شكل النظام السياسي والإداري. حيث إن التصويت والإعتماد على رأي الأغلبية هي طبيعة النظام الديمقراطي؛ وهو ما تحقق في إقرار الدستور العراقي الدائم.
لقد نصت فقرات عديدة على الطبيعة اللامركزية للحكم في العراق, فيما أتاحت الحق في تشكيل أقاليم إن رغبت بذلك.
نصت المادة ( 1 ) من الدستور على إن ” جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي ـ برلماني ـ ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق ” والمادة ( 116 ) أن ” يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية” أما المادة ( 117/ أولاً ) فأنها قضت بأن “يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كوردستان وسلطاته القائمة إقليماً اتحادياً” وأخيراً نصت المادة ( 122/ أولاً ) على أن “تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون”..إما المادة (119)فقد نصت على: “يحق لكل محافظةٍ او اكثر، تكوين اقليمٍ بناءاً على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بأحدى طريقتين:
اولاً :ـ طلبٍ من ثلث الاعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم.
ثانياً :ـ طلبٍ من عُشر الناخبين في كل محافظةٍ من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم.”
وتتحدث المواد (120, 121) في آليات تشكيل تلك الإقاليم وصلاحيتها, وحقوقها, إضافة إلى الكثير من المواد والفقرات الدستورية التي تذكر الطبيعة (الأتحادية) لجمهورية العراق..لا ريب إن تلك الفقرات, لم تُكتب عبثاً, أو لتُملئ بها الدفتين؛ إنما جائت كحاجة من واقع معاش, وتشخيص دقيق بعد قراءة متأنية للأوضاع, وما ستتمخض عنها من أحداث.
بعض القوى السياسية دخلت المعترك أو الصراع الدستوري, فكانت مصرّة على تنفيذ تلك البنود, القوى الكردية أختزلت مطالب الشعب الكردي, فأرتبطت حول محور, وقضية مصيرية بالنسبة لهم, فكان ما أرادوا. بينما واجه المجلس الأعلى المتحالف مع الكورد والمتوافق معهم في قضية الفدرالية معارضة شرسة من قبل القوى الشيعية والسنية على حدٍ سواء, ولعل السلاح الذي أستُخدم ضد (مجلس الحكيم) من قبل حلفاؤه الشيعة, هو ورقة الفدرالية, فكانت الإتهامات تنهال من كل حدب وصوب. إن القوى السياسية التي أستخدمت النقد اللاذع للمطالبين بالفدرالية أستغلت ضعف الوعي الجماهيري وأنتهكت الدستور لإغراض إنتخابية, فالمطالبة بتنفيذ الدستور حق دستوري قبل كل شيء ولا يجوز رفضه مسبقاً, بيد إن تلك البنود لم تعرض على الشعب لغرض إقرارها أو رفضها.!
بعد ما يقرب العقد من الإستفتاء على دستور جمهورية العراق؛ أتسعت رقعة المساحة المطالبة بتشكيل أقاليم, ومطالبها أتت بشكل صريح؛ فالسنة يبحثون عن أقليم سني, والشيعة طامحون بفدرالية شيعية كحل للرفض السني!..ولم يزل المركز, ورجال السلطة, يتشبثون بمركزية الدولة..!
وقد ذهبت الأحلام المركزية أبعد من ذلك, لدرجة سعي الحكومة إلى نقض قانون (21) المعدّل لسنة 2008 والذي يعالج التداخل بين الصلاحيات، ويعطي صلاحيات تشريعية ورقابية واسعة إلى المحافظات، ويمنح المحافظات نصف إيرادات منافذها الحدودية، كما يوفر للمحافظات المنتجة للنفط خمسة دولارات بدل دولار واحد عن كل برميل نفط ينتج. الأمر الذي عدّه البعض, عودة للدكتاتورية.
أسطورة الوحدة والديمقراطية!..
المستوى التمثيلي الرسمي, لا يعني شيئاً إذا ما تناقض مع الممارسة الشعبية, وحتى الممارسة التي يتبناها رجال السياسية, فيأتلفون, ويتفقون, ويتخالفون, وفقها..الوحدة الوطنية في ظل دولة مركزية جامعة لحدود العراق؛ مزّقت الخارطة الكبرى, ولعلها كذبة يتضح عقمها بمراجعة نزاعات القوى الممثلة للمكونات بخصوص مناطق أسموها (متنازع عليها), فالجماعات التي تتصارع على أراضٍ قومية, أو مذهبية, لا تشكل مجموعة ترتقي لتكون (شعب).
النظام الديمقراطي يرتكز على (الإنتخابات), كريشة ترسم شكل الحكومات, والبرلمانات, فإذا ما توافقت الآراء المتناقضة حول (من يحكم), أستطاعت القضاء على مسببات الأزمة المزمنة..ما يحدث اليوم؛ تناغم الجمهور مع الخطاب اللاعن ودعوات الإنفصال, أو الغلبة المذهبية بأي شكل كان. بعض الساسة أحرجهم هذا الأمر, فقد يخسر الكيان السياسي (س) مستقبله وينتهي بمجرد زيارة لمحافظة تختلف مذهبياً مع ذلك الكيان, ويتعرض لحملات من التخوين التي تصل إلى سحب الهوية!..يُعزى بقاء بعض الجمهور للمتصدين اليوم في الحكومة, إلى التخوّف الطائفي, والتخندق, والخطاب المستمد من صناعة الأزمة, والترويج لها بشكل يسمح ببناء أمبراطوريات وأمراء للمذاهب, لا تدوم أماراتهم بفقدان أسباب التأمّر.
إذن: فالديمقراطية كنظام تبانت عليه القوى السياسية مع الشعب, لم يعد قائماً, حيث إن الرأي العام لا زال يتشكل وفق المخاوف, والفتن, والعقد التأريخية, وليس بوحي من طموح بناء الدولة أو التطلع نحو الإستقرار وتأسيس الحياة الكريمة..لترسيخ الديمقراطية, تحتاج إلى معرفة شكل الدولة ونظامها المناسب, بغية الوصول لمرحلة النهوض.