برز مصطلح المرجعية بعد احتلال العراق عام 2003 , وهو يعني الجهة التي يرجع اليها المسلمون الشيعة عندما تدعو الحاجة للحصول على قرار يتلائم مع الدين والمذهب في اي شأن من شؤونهم الحياتية , وهذا لا يعني انه لم يكن للمرجعية الدينية الشيعية دور قبل الاحتلال , بل بالعكس فقد كان لها دور مؤثر في مقاومة النظام السابق الى درجة ان الولايات المتحدة الامريكية اتصلت بها وعقدت معها صفقة كما ذكر وزير الدفاع الامريكي السابق ( رامسفيلد ) في مذكراته المنشورة باللغة الانكليزية , وهذا ليس موضوعنا في هذا المقال .
ان المقصود بالمرجعية هنا هو مرجعية سماحة السيد علي السيستاني الموجود في العراق ولم يغادر كربلاء منذ عام 2003 الا مرة واحدة عندما احتدم القتال بين جيش المهدي بقيادة السيد مقتدى الصدر وقوات الاحتلال في عهد رئيس الوزراء السابق السيد اياد علاوي عام 2004 .
للمرجعية منزلة مقدسة لدى اتباع المذهب الشيعي . يقول السيد الخميني وهو ما يأخذ الشيعة اقواله كما هي ( ان الفقيه العادل في عصر الغيبة يتولى من الشؤون ما كان يتولاه النبي –ص- والامام –ع- في اطار زعامتهما العامة . وله نفس الامتياز الذي كان لهما في اطار الحكم والولاية . وعلى عامة المسلمين اطاعته والانقياد تحت قيادته الحكيمة ) ( كتاب – ولاية الفقيه – الحكومة الاسلامية آية الله العظمى الامام الخميني – نشر دار القدس – بيروت ) .
اصبح سماحة السيد على السيستاني المولود في ايران عام 1930 احد اكبر المرجعيات الدينية للشيعة في العالم بعد وفاة آية الله ابو القاسم الخوئي , وتوليه زعامة الحوزة العلمية في النجف التي هي مدرسة العلوم الرئيسية لدى الشيعة الاثنى عشريةالاصولية .وقد عرف عنه هدوءه وعدم ظهوره في وسائل الاعلام وكان يتولى الاجابة على الاسئلة خصوصاً الشرعية منها بشكل مختصر وسريع ولم تصدر عنه فتاوى او تعليقات تخص الشأن العراقي طيلة فترة حكم صدام حسين , لكن الموقف تغير بعد الاحتلال حيث اصبح لرأيه دور في حسم بعض الامور وحدثت لقاءآت مع بعض شخصيات العملية السياسية ومخاطبات ومكاتبات مع قوات التحالف .
قال السفير ( بول بريمر ) ( كان آية الله السيستاني الزعيم الابرز للمرجعية في النجف والمسؤول الروحي عن الحوزة وهي المركز المرموق للدراسة الشيعية قبل نقلها الى قم الايرانية سنة 1979 . ويلعب السيستاني لدى الطائفة الشيعية دوراً مماثلاً للدور الذي يلعبه البابا لدى الكاثوليك . وقد اعلن آية الله عبر قنوات خاصة بانه لن يجتمع مع احد من الائتلاف , وكنت انا وهو نتواصل بانتظام بشأن القضايا الحيوية من خلال الوسطاء طوال المدة التي قضاها الائتلاف في العراق . وقد ارسل السيستاني اليَ انه لم يتخذ موقفه بسبب عدائه للائتلاف بل يعتقد بان تجنب الاتصال العام مع الائتلاف يتيح له ان يكون ذا فائدة اكبر
في مساعينا المشتركة ) (كتاب السفير بول بريمر- عام قضيته في العراق – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – 2006 ).
ظل سماحة السيستاني على عزلته بعد انسحاب قوات التحالف من العراق , وكانت لقاءآته بالمسؤوليين الحكوميين محدودة وتدخله في شؤون الحكم قليلة رغم المشاكل والازمات التي مرت بها العملية السياسية خلال السنوات العشر الاخيرة وذلك حرصاً منه على الالتزام بان يبقى مقام المرجعية الدينية في موقع يسمو على كل الخلافات والتحديات السياسية , ولم يمنع ذلك من تكليف ولده محمد رضا باجراء مقابلات ولقاءآت مع شخصيات حكومية وغير حكومية نيابة عن والده , كما ان خطيب الجمعة في كربلاء المقدسة كان يعطي اشارات معينة خلال الخطبة باعتبارها توجيهات صادرة من المرجعية التي تنأى بنفسها عن التدخل في الشؤون السياسية بشكل مباشر .
في الاسابيع الاخيرة من ولاية السيد نوري المالكي وقبل تكليف السيد حيدر العبادي بتشكيل الوزارة اشتدت الازمة السياسية المتعلقة بالكتلة الاكبر في البرلمان التي تكلف بتشكيل الوزارة وانقسم الجو السياسي في العراق الى قسمين , اغلبية تعارض بقاء السيد نوري المالكي على رأس الحكومة لولاية ثالثة وأقلية ضئيلة تؤيده , واشتد التنافس والتحدي ووصل الامر الى طهران وواشنطن بل الى كل انحاء العالم .كانت طهران تميل الى بقاء المالكي لولاية ثالثة في حين كانت واشنطن تسعى لازاحته , واتخذت دول الاتحاد الاوربي نفس موقف واشنطن . في هذه الاثناء كان العراقيون في كل مكوناتهم يتطلعون الى معرفة موقف المرجعية الدينية من هذه الازمة , لكنها لم تحرك ساكناً , عدا اطلاق نداءآت عامة تتحمل تفسيرات عديدة تصب في ضرورة توحيد الكلمة , في حين اجمعت آراء كل الدول الاقليمية والعربية والعالمية على ان عدم التوصل الى حل يوحد كلمة الشعب العراقي بكل مكوناته باسرع ما يمكن فان العراق الذي فقد ثلث اراضيه قد يتلاشى .
كان من الممكن ان تحل الازمة خلال ايام بل خلال ساعات لولا تشبث رئيس الوزراء نوري المالكي بموقفه الرافض للتخلي عن منصبه حتى لشخص ينتمي لحزبه , واصراره على التمسك بالحكم لولاية ثالثة .
عنما وجد العراقيون انفسهم في موقف لا يحتمل ووصل الامر الى توقع ما لاتحمد عقباه , اصدرت المرجعية اشارات عامة غير مباشرة تأمل من ورائها عدم تشبث المسؤولين بمناصبهم وذلك في خطبة الجمعة بكربلاء . كان من الطبيعي ان يفسر العراقيون ذلك بانه دعوة للمالكي كي يتخلى عن موقعه بناء على رغبة المرجعية الدينية , لكن الرجل استشاط غضباً نتيجة لتلك التلميحات.
نشرت بعض الصحف يوم 9 آب 2014 الخبر التالي ( أفاد تقرير صحفي امريكي ان رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته نوري المالكي قد وجه رسالة الى المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيستاني _ يحذره – فيها من التدخل في الشؤون السياسية , مطالباً اياه بالاقتصار على الارشاد الديني والمعنوي لمقلديه و – ترك المجال السياسي لأهله — . وجاء في رسالة المالكي للمرجع الشيعي _ تلقينا بامتعاظ شديد اشاراتكم في خطبة صلاة الجمعة بكربلاء المقدسة عبر ممثلكم عبد المهدي الكربلائي , بعدم تشبث المسؤولين بمواقعهم الامر الذي فسره عامة الشيعة واعداء العملية السياسية بأننا المقصودون بهذا الكلام ).
لم بلجأ مكتب السيد المالكي الى تكذيب هذا الخبر , ولم تنفي مرجعية سماحة السيستاني انها استلمت مثل هذه الرسالة.
ألا يعلم السيد المالكي ان في مقدمة مهام المرجعية الدينية في المذهب الشيعي الاثنى عشري اتخاذ القرارات الملزمة في الظروف الحرجة واوقات الازمات في المجالات الشرعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها من الامور التي يختلف بشأنها المسلمون , حرصاً منها على وحدة الكلمة وباعتبارها الملجأ الاعلى الذي يتجه نحوه اتباع المذهب لحمايتهم من التشرذم في اتخاذ القرارات ؟
ان إطاعة المرجعية الدينية مسؤولية الزامية لكل اتباعها الشيعة , لكن السيد المالكي فاته ان يتذكر إجابته على سؤال وجهه له مراسل اجنبي هو ( من انت ؟ ) فقال المالكي ( قبل كل شيء انا شيعي )…. ما فائدة الولاء للمرجعية من دون طاعة ؟ .