حينما طرح الملك الأردني عبد الله بن الحسين مخاوفه من هلال شيعي قادم، يحيط بالأردن من جهتين اثنتين، وكان ذلك في أعقاب انهيار إمبراطورية صدام حسين. فإن أحداً لم يغب عن باله، ما كانت تخبئه دوائر المخابرات الغربية من تصورات، حول مستقبل المنطقة، ومصير الأنظمة السياسية فيها.
وفي ذلك الوقت كانت سوريا ماتزال دولة علمانية مستقرة. وكان مقاتلو القاعدة يتخذون منها منطلقاً للعبور نحو العراق لزعزعة النظام السياسي الجديد. أي أن الجزء الأكبر من الهلال لم يكن قد تشيع بعد، بل كان مايزال خاضعاً لإرادة سعودية، تناصب هذا الهلال العداء، وتلقي بكل ثقلها لمنع اكتمال حلقاته.
وكانت المنطقة الغربية من العراق، المجاورة للأردن، والمحاذية لسوريا، مرتعاً لمتشددي القاعدة. ولم يكن للشيعة فيها أي وجود مادي أو معنوي. وكانت منطلقاً للقيام باعتداءات مسلحة على مدن الشيعة، لإيقاع أكبر ما يمكن من الخسائر فيها.
وعلى الطرف الشمالي الغربي من هذا الهلال تقع مدن العلويين في سوريا، وتجمعات الشيعة في لبنان. وهؤلاء جميعاً يعيشون في شريط ساحلي يضيق أحياناً على ساحل البحر المتوسط الشرقي. تتخلله أماكن تواجد بعض أبناء الطوائف الأخرى من المسيحيين والمسلمين على حد سواء.
كان الملك الأردني يحذر، بناء على معلومات قدمت له من أجهزة مخابرات عالمية، أن قوة الشيعة في هذه المناطق، قوة متنامية. وأنهم بسبيل هزيمة خصومهم الأقوياء. ورغم أن سوريا لم تكن قد دخلت المعادلة بعد، فإن الملك الأردني كان يدرك أن السلفيين لن يلبثوا حتى يجربوا الإطباق عليها هي الأخرى، وأن ردود أفعال شيعية قوية ستكون محتمة فيها.
وحتى عام 2011 كان الأميركيون مايزالون يعسكرون في العراق، وإن كانوا جمدوا حركتهم فيه بموجب معاهدة الانسحاب لعام 2008. ولكن خطر تعرض الحكومة السورية لغزو أميركي زال بشكل نهائي، بعد خسارة الجمهوريين الانتخابات الرئاسية خريف ذلك العام. وهكذا وجد السوريون أن دعم المتشددين السنة لن يعود عليهم بالنفع. وأن الفرصة سانحة لاستبعادهم من البلاد. فاتجهوا لتطبيع علاقاتهم مع العراق بشكل تدريجي. وباستثناء حوادث قليلة هنا وهناك، فإنهم لم يعودوا معنيين بالعمليات العسكرية في العراق. غير أن حضور القوى السنية العراقية إلى دمشق كان مايزال فاعلاً في تلك الحقبة.
كانت هذه السياسة مقدمة لحوادث الربيع العربي الشهيرة، التي أطاحت بأربعة رؤساء عرب. ولكنها لم تستطع المساس بحكومة الرئيس الأسد في سوريا.
إن الدعم اللا محدود للمعارضة السورية، ودخول السلفيين المتشددين إلى أجزاء من البلاد، شكل البداية المنطقية لاستكمال حلقات الهلال آنف الذكر. فلم يكن بوسع إيران والعراق ولبنان الوقوف على الحياد، أمام الزحف الوهابي على المدن السورية. ولم يغب عن بالهم أن غلبة الزحف تعني إبادة المكون الشيعي في المنطقة، والقضاء على إرثهم الثقافي والحضاري والمادي الذي صنعوه عبر القرون.
وهكذا كان الهجوم الوهابي الذي رعته دول مثل السعودية وقطر وتركيا، وقدمت له ألوان المساندة دول عربية أخرى، حافزاً للدول الشيعية الثلاث كي ترمي بثقلها خلف الحكومة السورية.
ومن المفارقات أن الولايات المتحدة وحلفاءها أجمعوا على التدخل في سوريا لإسقاط نظامها السياسي. ولكنهم وجدوا بمرور الوقت أن هذه الخطوة تصب في صالح المتشددين، الذين أطلقوا على تنظيمهم الإرهابي اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروف اختصاراً باسم داعش.
وهكذا كان الاجتياح الوهابي لسوريا سبباً مباشراً في “تشيع الدولة” فيها، بشكل صريح لا لبس فيه. وبالرغم من أن هذا “التشيع” كان سياسياً لوجود فئات كثيرة متعاطفة مع الشيعة فحسب، فإن صفة الهلال التي اقترحها الملك عبد الله ذات يوم، قد تحققت بالفعل. وباتت أقرب من أي وقت مضى إلى الاكتمال!
هل هي نبوءة عربية من ملك هاشمي ذي ملامح أوربية؟ هل يشعر الآن بالفخر لأنه أطلق هذه التسمية في وقت كانت فيه مجرد أحجية أو أنه بات يشعر بالندم الآن لأنها أصبحت حقيقة واقعة؟
ربما يكون كل ذلك صحيحاً، فالقوانين التاريخية التي أثبتت صحتها في كثير من بقاع المعمورة، لن تخذل الشيعة في المنطقة، ولن تخطئ معهم، كما لم تخطئ مع غيرهم من شعوب العالم.