يبدو أن أمريكا السياسية لا تختلف كثيراً عن أمريكا الهوليويدية فكلاهما وجهان لعملة واحدة وما تقدمه هوليود من الغرائب والشخصيات العجائبية للجمهور الأمريكي والعالمي في السينما ليس بعيداً عما تبتكره أمريكا في عالم السياسة فعلى مدى عقود أغرقت هوليود صالات العرض السينمائي داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها بمئات الأفلام السينمائية عن الشخصية الأمريكية الخارقة ولآخر ما توصلت إليه العقلية الأمريكية من تطور تقني وتكنولوجي في مجال حروب الفضاء والإتصالات كما في أفلام ( آي تي وحرب النجوم ) ومن يشاهد تلك الأفلام يشعر أن العالم كله في كفه وأمريكا لوحدها في كفة أخرى وأن الهيمنة الأمريكية على العالم لم تعد تحتاج سوى أصابع تدير مجموعة من الأزرار أو جندي أمريكي خارق مفتول العضلات قادر على فرض الإرادة الأمريكية في أي بقعة من العالم وبعد الهزيمة النكراء لأمريكا في فيتنام كان لابد من تدارك هذه الهزيمة إعلامياً ونفسياً وما سلسلة أفلام رامبو التي أنتج أول أفلامها في العام 1982 للمخرج الامريكي تود كوتشيف وبطولة الممثل الامركي الجنسية الايطالي الأصل سلفستر ستالون ﺇلا واحدة من تلك التقديمات الممنهجة لتلميع الصورة السيئة التي أحتفظ بها الرأي العام الأمريكي والعالمي عن الجندي الأمريكي وما أقترفه من مجازر وأخطاء بحق الشعب الفيتنامي وكذلك أريد لها أن تكون معادلة موضوعية ومعياراً نفسياً ومعنوياً للجيل الامريكي الذي رفض الأنخراط بالعمليات العسكرية التي كانت تجري آنذاك في فيتنام وخلق نوع من التعاطف مع هذا الجندي العائد من ساحة الحرب والمهزوم نفسياً والمنبوذ إجتماعياً فقدمته بطريقة خارقة تشبه الشخصية الكارتونية المحببة لدى الصغار( Grendizer جريندايزر) فلقد كان المطلوب أن يكون شخصية نموذجية يقتدى بها للجيل الأمريكي الناشيء في حالة الفراغ التي خلفتها الهزيمة الأمريكية في فيتنام فهو خارق بكل شيء بقوته الجسمانية وحركاته الرياضية وروحه العسكرية وقدرته الفائقة في حسم المواقف الصعبة وتمكنه من كل تكنولوجيا العصر من قيادة الدراجة ﺇلى الطيارة المقاتلة لايشك لحظه واحدة بتفوقه ونجاحه وكسبه لأي معركة يخوضها ثم أعقبتها بسلسلة أفلام روكي المنتجة أول أفلامه في العام 1976 لنفس الممثل ومن أخراج جون افيلدسن في نسخة أخرى أكثر عنفاً ودمويةً لكن هذه المرة أختارت لها ساحة أخرى غير ساحة الحروب وهي حلبة رياضة الملاكمة وجعلت من شخصية روكي نداً وخصماً لدوداً لمتحديه وخصوصاً المتحدي الروسي في أشارة واضحة على حدة الصراع القائم آنذاك بين الأتحاد السوفيتي الماركسي الأشتراكي والولايات المتحدة الأمريكية الديمقراطية الرأسمالية وكانت نهاية الفيلم محسومة للأمريكي روكي .
سياسياً فان أمريكا الحديثة العهد بالساحة العالمية ظلت منزوية عن محيطها الأوربي وحاضرة الأمم التي زودتها بخليط غير متجانس من الشعوب في هجرات متعاقبة بدأت منذ أكتشافها من قبل الرحالة الاسباني كريستوفر كولومبس في العام 1492 حين كانت أرضاً يسكنها سكانها الأصليون الهنود الحمر لكنها وحتى بعد إستقلالها عن التاج البريطاني بعد أعلان وثيقة الأستقلال عام 1776 ظلت أمريكا أمة متقوقعة بعيدة عن المشاركة في الشؤون العالمية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وانعقاد مؤتمر سان ريمو سنة 1919 حين طرح الرئيس الامريكي ولسن مبادئه السامية التي أعتبرت جزءاً من ميثاق عصبة الامم المتحدة ورغم هيمنتها الاقتصادية وقوتها العسكرية خلال الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ﺇلا أنها ظلت قارة منزوية على شواطئها الطويلة الممتدة على سواحل المحيطين الأطلسي والهادي وحتى بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ظلت أمريكا تراقب الاحداث من بعد وكانت مطمأنة أن الخطر سيكون بعيداًعنها وأنها بالتالي ستجني الكثير من حصاد هذه الحرب التي ستطال الجميع وسيخرج منها الجميع مثقلين بأوزارها وخسائرها ولم تدخل تلك الحرب ﺇلا مجبرة بعد تعرضها ﺇلى ضربة قاصمة في الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر في المحيط الهادي سنة 1941 وتكبدها خسائر فادحة في أسطولها البحري والذي كانت من نتائجه تشكيل التحالف الأنغلو ساكسوني الذي أسهم كثيراً في الأسراع في حسم نتيجة الحرب بعد أستخدام السلاح النووي ولأول مرة في العصر الحديث بعد أستهداف الطائرات الامريكية الحاملة للقنابل النووية اليابان يومي 6 و9 أيلول1945 لجزيرة هيروشيما وناغازاكي الصناعيتين .
بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم بين معسكرين شرقي يقوده الإتحاد السوفيتي وغربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبعد ماحصل من تفكيك لبعض الدول وتعديل خرائط دول أخرى أصبح من المؤكد أن هنالك جولات أخرى عديدة من الحروب ستفرزها هذه الحالة المظطربة التي خلقتها مؤتمرات المنتصرين في يالطا وبوتسدام وطهران وبالفعل بدأت حروب الحقبة التالية أو ماعرف بالحرب الباردة ( حروب الوكالة ) بين الأتحاد السوفيتي وأمريكا وبواسطة وكلائهم الأقليمين وكانت الحرب الكورية فاتحة هذه الحروب التي جرت بين الأعوام ( 1950 – 1953 ) بين شطري كوريا الشمالية المدعومة من الصين والاتحاد السوفيتي وكوريا الجنوبية الخاضعة للأمم المتحدة والمدعومة أمريكياً ولتتجنب الولايات المتحدة الأمريكية الدخول المباشر بهذه الحرب أسمتها ( النزاع الكورية ) ولم يكن التدخل الأمريكي بطريقة سافرة ومكشوفة كما حدث في فيتنام حينما تدخلت القوات الامريكية بصورة مباشرة من خلال دعمها لنظام سايجون في فيتنام الجنوبي ضد فيتنام الشمالية الديمقراطية منذ عام 1961 في عهد الرئيس الامريكي كيندي من خلال أرسال الجيوش والمستشارين وتاسيس مقراً لقيادة القوات الامريكية سنة 1962 حتى بلغ عدد القوات الامريكية في فيتنام الجنوبية اكثر من 16000 ألف مقاتل وفي العام 1965 بدأ الطيران الحربي قصف فيتنام الشمالية من خلال شن الغارات الجوية وأرسال القوات المسلحة للمشاركة في تلك الحرب مستغلة الفراغ السياسي الذي أعقب مقتل الرئيس الفيتنامي الجنوبي بانقلاب دموي خلف ورائه اكثر من عشر حكومات عسكرية خلال 18 شهر ومع مرور الوقت كان التورط الامريكي يزداد سخونة في فيتنام حتى وصلت نسبة الجيوش الأمريكية إلى (550000 ) ألف جندي ولم تنتهي تلك الحرب المدمرة إلا في 30 نيسان 1973 بعد دخول قوات هانوي إلى سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية وخروج آخر جندي أمريكي بعد خسارتهم لأكثر من 57000 ألف مقاتل ورغم الأستخدام الهستيري المفرط لأحدث التقنيات العسكرية من حاملة طائرات وقاصفات أستراتيجية إلا ان الولايات المتحدة الأمريكية منيت بأقسى هزيمة في تاريخها الحديث وكان البداية في أعادة النظر في السياسة الخارجية الامريكية حتى ظهور مخالبها الهلامية في شكل تنظيمات عسكرية إسلامية مسلحة كتنظيم القاعدة والذي حرصت أمريكا على إنشائه ودعمه بمساعدة السعودية وباكستان في السنوات التي سبقت إنسحاب السوفيت من أفغانستان 1989 في المناطق المحاذية لأفغانستان بينها وبين باكستان في بيشاور الباكستانية بين الاعوام (1988 -1990 ) كان الغرض منه محاربة الجيوش السوفيتية في أفغانستان وكانت أمريكا تمد ذلك التنظيم بالسلاح والعتاد والخرائط العسكرية والتدريب على أيدي ضباط وخبراء حرب باكستانين ورجال مخابرات أمريكين وخلال سنوات قليلة فوجئت أمريكا بأصدقاء الأمس ينقلبون عليها ويوجهون أولى ضرباتهم الإرهابية مستهدفين المصالح الامريكية في أفريقيا بتفجير السفارتين الامريكيتين في دار السلام ونايروبي 1996 لكن أمريكا البيروقراطية المنتشية بفرحة سقوط جدار برلين وأختفاء العدو التاريخي لها الأتحاد السوفيتي بعد أنهياره التاريخي في العام 1991 كان من مصلحتها أن يكون لها عدو تقليدي يحل محل عدوها القديم وبعد أنتشار موجة من الكتابات التي تنظر إلى ملامح العالم الجديد بعد أنتهاء الحرب الباردة وتؤدلج لقيادة عالمية للفكر الليبرالي الديمقراطي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية كما في كتابات المفكر الامريكي الليبرالي فرانسيس فوكوياما ( نهاية التاريخ ) والتي اختزل فيها الصراع التاريخي بين القوى المتحكمة في مصير العالم بالعصر الحديث بالقول ((لقد اسفرت محاولتنا لبناء تاريخ عالمي عن مسارين تاريخيين متوازيين .. الاول : تحكمه العلوم الطبيعية الحديثة ومنطق الرغبة .. والثاني يحكمه الصراع من اجل الاعتراف .. وقد كانت نهايتا المسارين واحدة لحسن الحظ .. الا وهي الديموقراطية الليبرالية )) ثم ظهرت النظرية الثانية لصموئيل هنتنغتون ( صراع الحضارات ) والتي أكد كاتبها بأن الصراع العالمي القادم هو صراع حضارات ممثلة لثقافات دينية قومية تمثلها المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية والكونفشيوسية ولم يكن هنتنغتون يعتقد ان نهاية التاريخ ستكون بانتصار المعسكر الرأسمالي على بقايا المعسكر الاشتراكي بل أعتبره البداية لصراع جديد يقوم على مبدأ الهوية الثقافية وستكون أقطابه الرئيسية القوى الصاعدة من الحضارة الشرقية ( الإسلام والبوذية ) في مقابل الحضارة الغربية ( اليهو /مسيحية ) ولقد جعلت الإدارة الامريكية من هذه النظريات أطار فلسفي للسيلسة الامريكية في مواجهة التحديات العالمية وركزت على الخطر الذي يمثله ما عرف ( بالإسلام السياسي ) باعتباره واحداً من الاخطار المستقبلية التي تهدد الثقافة والوجود الغربي وكانت الإدارة الأمريكية قد قطعت شوطاً طويلاً في تعاملها مع أقطاب هذا الخطر الإسلامي لأنها هي من صنعته وروجت له وتبعاً لذلك طرحت هذه الإدارة مفهوم ونظرية الشرق الأوسط الجديد القائم على خلق شرق أوسطي إسلامي بعد تفكيكه إلى كيانات ودويلات دينية وأثنية متحاربة فيما بينها لتبعد الخطر الإسلامي المتربص بها وتوجت مشروعها الكبير في التغيرات الدراماتيكية التي اجتاحت العالم العربي الإسلامي فيما سمي ( بالربيع العربي )الذي أطاح بكل الرموز التيوتولارية التي صنعتها أمريكا في مرحلة ما للوقوف في وجه المارد السوفيتي خلال الحرب الباردة لتستبدله بحكومات أحزاب الإسلام السياسي ومن ثم لتنقض عليها بعد فشل مشاريعها الإسلامية النهضوية وتدعم قوى رديكالية أسلامية منشقة من تنظيم القاعدة أو تابعه له مثل تنظيمات جبهة النصرة وداعش وجيش المجاهدين وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي ولقد نجحت أمريكا في تسويق أفكارها وتطبيقها على أرض الواقع العربي وكما في هوليود فأن البطل الأمريكي في النهاية ينتصر على أعدائه كذلك في السياسة حققت أمريكا انجازاً مهماً في أنها غيرت محور الصراع من صراع ( مسيحي / يهودي – إسلامي ) إلى صراع أثني (سني / شيعي – سني / سني ) كما يحدث الآن في ليبيا والعراق واليمن وسوريا لكن حتماً أن التاريخ سوف لن يتوقف على المسار الذي أختاره له فوكوياما ولن تكون هوية الصراع القادم إلا كما كتبه له التاريخ الأنساني صراع الثقافات والحضارات وليس صراع الطوائف والأثنيات الإسلامية وكما ستظل هوليود أكبر مدينة في أنتاج وتسويق السيء والرديء من أفلامها الخيالية فأن الأدارة الامريكية أيظاً ستظل المورد الرئيسي للأفكار المضللة والعصابات القومية والدينية .