لسنا هنا بصدد تقييم مدى صلاحية وسلامة الإجراءات التي رافقت العملية الانتخابية البرلمانية الأخيرة التي جرت في الثلاثين من نيسان الماضي ، كما لسنا بصدد إعطاء أحكام معيارية عن مدى أخلاقية المواقف ونزاهة الممارسات التي رافقتها وتمخضت عنها ، بقدر ما نروم قراءة المؤشرات السياسية والمعطيات الاجتماعية التي تمخضت عنها وترتبت عليها ، لاسيما حيال دلالات التراجع المتوقع – من جانبنا على الأقل – ليس فقط للتيار المدني الديمقراطي فحسب ، وإنما لسائر التيارات ذات التوجه الوطني والعقلاني كذلك . والواقع إن المتابع لتداعيات وتقلبات الشأن العراقي منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق ، وما نتج عنه من تدمير للمؤسسات وتخريب للنفسيات وتشويه للرمزيات ، الأمر الذي شجع مخلوقات العالم السفلي الصعود إلى واجهة الأحداث وتبوء صدارة المشاهد ، بحيث تسنى لها احتلال الفراغات السياسية وتجسير الانقطاعات الاجتماعية التي تمخضت عن تلك الواقعة الكارثية ، وشروعها بالتالي من فرض إرادتها المستتبعة – عبر المحتل وحلفائه طبعا”- على سائر ربوع هذا البلد المستباح ، وطرح قيمها الهمجية على مجمل قطاعات المجتمع المنتهك . بحيث أصبحت مظاهر تسلقها قمة الهرم السياسي وإجراءات تسللها إلى وعي المجتمع ، واقع حال لا مهرب منه أو الالتفاف عليه . ومما ساعد هذه الكائنات المتبربرة على طرح نفسها كخيار وحيد لقيادة خيارات الوطن من جهة ، وسهل عليها ، من جهة أخرى ، مهام احتواء ممانعات المواطن ، هو تراجع مظاهر العلاقات الديمقراطية وانحسار قيم الأفكار العقلانية ، ليس فقط على صعيد المواقف السياسية والممارسات الاجتماعية من قبل الأحزاب والجماعات الحاكمة فحسب ، وإنما على مستوى الحركات والتيارات المحكومة أيضا”، والتي غالبا”ما تصنف كونها محسوبة على النظريات اليسارية (الماركسية / الاشتراكية) ، أو اليمينية (الليبرالية / الرأسمالية)على حدّ سواء . وذلك لأنها بدلا”من أن تقوم – بحسب استحقاقات فكرياتها المعرفية ومنهجياتها العقلانية – بحملات نقدية وتحليلية لمجمل أصولها السوسيولوجية وخلفياتها الانثروبولوجية ومنظوماتها الابستمولوجية ، فقد استمرت محافظة على تلك الأصول والخلفيات والمنظومات ، من منطلق كونها عاصم يحول دون تسلل منتجات الحداثة الغربية بشقيها المعادي للدين والمناهض للنزعة الاجتماعية من جهة ، واعتبارها خزان ذاكرتها التاريخية وبوصلة مخيالي الجمعي من جهة أخرى . بعد أن تلوثت (نخبها) قبل (جماهيرها) بإفرازات الإيديولوجيات الأصولية بشتى ضروبها الدينية والقومية ، التي لم تلبث أن أبصرت النور كرد فعل على خلفية الفراغات السياسية والفكرية التي تركتها القوى الاستعمارية بعيد فترة الاستقلال ، وهو الأمر الذي وسم مواقفها بالتناقض بين الأقوال والأفعال ، ودمغ سلوكياتها بالتعارض بين التنسك والتهتك . بحيث أفضى ذلك إلى فقدان تلك الأفكار وهجها السياسي وتآكل بريقها الفكري ، ليس فقط بالنسبة لعموم الشعب العراقي الذي دجنت تفكيره السياسات الراديكالية وعلبت وعيه الإيديولوجيات الخلاصية فحسب ، بل وكذلك بالنسبة لجمهور المؤيدين والمتعاطفين مع تلك الأفكار والنظريات . لاسيما بعد أن توالت على حكمه أنظمة سياسية دكتاتورية وشمولية ، تعاطت مع كل من يخالفها الرأي وبعارضها المعتقد بالقمع الجسدي والترويع النفسي والتجويع الاقتصادي والتركيع السياسي . بحيث شجعت سياسات الطوارئ والأحكام العرفية التي انتهجتها تلك الأنظمة على امتداد تاريخ الدولة العراقية ، لتكريس مظاهر انعدام الثقة وتعاظم جدران الشك بين الحاكم والمحكوم ، بصرف النظر عن طبيعة الأحزاب والأصول الإيديولوجية لأولئك الحكام من جهة ، وتوطين نزعات الشوفينية القومية والمذهبية الدينية والقبلية الاجتماعية والعنصرية المناطقية من جهة أخرى ، بعد أن اختصرت (دولة الحزب الواحد) قيمة المواطن إلى مجرد تابع لهذا الحزب أو ذاك ، لهذه القومية أو تلك ، لهذه الطائفة ، لهذه العشيرة أو تلك . وعليه فليس من الغريب أن تمنى التيارات الليبرالية والديمقراطية بتلك الهزائم النكراء ، مع أول امتحان لها في مواجه الواقع الاجتماعي والانخراط في عالم التجربة السياسية ، خصوصا”وان التعاطي مع قيم ومبادئ تلك الأفكار والنظريات الحداثية لم يتم من منطلق توفر القناعات والسلوكيات ، إنما جرى من واقع التأثر بالخطابات والشعارات . وبدلا”من أن تستثمر الجماعات المحسوبة على التيارات المدنية – الديمقراطية فرصة سقوط النظام الشمولي ، لتعيد جدولة حساباتها وغربلة خياراتها ، وتضع من ثم أفكارها التقليدية وتصوراتها العتيقة على طاولة النقد ، بما يتماشى ومتطلبات المرحلة الجديدة ويتساوق مع معطياتها الحديثة ، فقد استمرت تراوح في مكانها الضيق وتلوك نفس الأفكار المبتسرة ، وكأنها تعيش في عصر آخر غير عصرها وتتعاطى مع مرحلة مختلفة غير مرحلتها ، ولعلها ظنت متوهمة إن النأي عن الزلازل السياسية والنوازل الاجتماعية التي تحيط بها من كل جانب ، يعد امتياز فكري وموقف أخلاقي ومكسب سياسي . وإذا كانت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة قد شكلت صدمة بالنسبة للذين يتعاطون مع الشأن العراقي ، من منطلق مشاعر التعاطف مع تلك الجماعات والتأييد لمواقفها والدعم لبرامجها ، فإنها بالمقابل جاءت مؤكدة لتوقعات البعض الآخر ، ممن لا يتعامل فقط مع الواقع السياسي والاجتماعي بناء على ما يتمخض عنه من وقائع مباشرة وأحداث آنية فحسب ، بل وكذلك من منظور فاعل الخلفيات السوسسولوجية ، ودور الترسبات الانثروبولوجية ، وضغط التراكمات السيكولوجية ، وأثر الانقطاعات الابستمولوجية . وعليه فان دلالات تراجع حظوظ التيار المدني – الديمقراطي في سباق الاستحواذ على خيارات الإنسان العراقي واستقطاب اهتماماته ، تؤكد بشكل قاطع إن لا مستقبل لهذا التيار المتردد في خضم أتون مجتمع آيل إلى التفكك والتآكل ذاتيا”، على وقع تطرف الذهنيات الأصولية وعنف الجماعات الطائفية ، التي أضحت تمارس أنشطتها التخريبية على مرأى ومسمع مؤسسات كسيحة وقانون متخاذل !! .