رحلة المرور إلى داخل الفلوجة لم تكن سهلة إذ أستوجب المرور بالعشرات من نقاط التفتيش للجيش والعدد ذاته من نقاط التفتيش للمسلحين، فالدخول والخروج ممنوع إلا لأشخاص قادمين لمهام المساعدة الإنسانية، ويُسمح لهم بالمرور في وقت محدد ولساعات معينة فإذا تجاوزوها يتم اعتبارهم مشبوهين وقد لا يُسمح لهم بالخروج من المكان بسهولة.
الشوارع الرئيسية المؤدية إلى الفلوجة من مداخلها الأربع مزروعة بالعبوات الناسفة ضمن خريطة معقدة كآلية دفاعية في حال حاول الجيش دخول المدينة، وعملياً لا يمكن دخولها إلا برفقة احد المسلحين ليكون مرشداً عن أماكن العبوات الناسفة.
اسويت الكثير من المنال بالارض، والشوارع غير الخراب معالمها، والأهالي ترتسم على وجوههم آثار التعب ويحملون في رؤوسهم مآس وقصص بقيت خافية عن العالم طوال مدة الحصار، فهناك من فقد جميع أفراد عائلته وانضم إلى المسلحين للانتقام وبعضهم خسر قدمه أو يده بسبب القصف، أما الموتى فقد دفنت معهم قصص من نوع آخر.
الشيخ أسعد الحلبوسي ، أحد شيوخ عشائر المدينة قال لـ “نقاش” “هنالك مناطق دُمرَّت بالكامل مثل “الحي الصناعي” و”7 نيسان” و”النزّال”، وأصبحت غير صالحة للسكن فيما تواصل طائرات الجيش قصفها حتى اليوم”. ويقول الحلبوسي الذي قرر استضافة ولد صغير لا يتجاوز عمره خمس سنوات اسمه عثمان، إن “عائلة عثمان قُتل أفرادها بالكامل في منطقة النزّال، ومن حسن حظه أنه كان يلعب في حديقة المنزل عندما سقط برميل متفجر على صالة المنزل حيث كان يجتمع أفراد عائلته”.
عثمان الصغير لم يعد له أحد في الفلوجة، أقربائه من أعمامه غادروا المدينة منذ شهور ولهذا قرر الشيخ الحلبوسي استضافته في منزله مع عائلته، ولكن قصة عثمان ليست الوحيدة فمثلها العشرات ، والضحايا عائلات باكملها أو أفراد منها.
الجيش العراقي الذي يحاصر الفلوجة منذ مطلع العام الجاري من جميع منافذها يقوم بقصفها يومياً وبنحو متواصل، بطريقتين، الأولى عبر المدافع الأرضية من معسكرات قريبة من المدينة أبرزها معسكر “المزرعة”، ويقول الأهالي عن هذا القصف بأنه غير فعال ولا تحدث أضراراً كبيرة، لكن مشكلتهم تتفاقم مع الطريقة الثانية التي يستخدم فيها الجيش القصف الجوي بالبراميل المتفجرة.
إذ تستخدم مروحيات عسكرية بعضها قديمة الطراز تعود إلى الجيش السابق وبعضها الآخر جديدة روسية الصنع تسلّمها الجيش قبل شهور بقصف المدينة ببراميل يصنعها الجيش العراقي بشكل تقليدي وهي تشبه إلى حد كبير البراميل المتفجرة التي يقوم النظام السوري باستخدامها في قصف معارضيه من المسلحين من خلال ملئ اسطوانة معدنية بمواد متفجرة وإسقاطها على المدينة من الطائرات، وبعضها لا ينفجر ويقوم سكان الفلوجة ولاسيما عناصر الجيش العراقي السابق بتفكيكها للتخلص من خطرها.
الملازم في الجيش كريم المعموري الذي يشرف على إحدى وحدات المدفعية التابعة للفرقة الأولى للجيش والمسؤولة عن محاصرة الفلوجة قال لـ “نقاش” نحن “لا نقصد قتل المدنيين وإنما قتل عناصر داعش الذين يسيطرون على المدينة منذ شهور، ونمتلك إحداثيات واضحة عن أماكن تواجدهم في المدينة ونقوم بقصفهم”، ولكن واقع المدينة يشير إلى إن القصف يطال منازل مواطنين مدنيين أيضاً.
تنظيم “الدولة الإسلامية” يحكم سيطرته على الفلوجة بعدما أجبر الفصائل المسلحة السنية غير المتطرفة في المدينة إلى الانضمام إليه أو تسليم أسلحتها ومغادرة المدينة، وغالبيتها فضّل مغادرة المدينة على الانضمام إلى المتشددين.
السبت الفائت قام عناصر من تنظيم داعش بالتجوال في شوارع المدينة لاستعراض عناصر أسرى من فصيل “جيش المجاهدين” وهم معصوبي الأعين بسبب إعلان التنظيم الذي يسيطر على شمال الفلوجة الحرب على “داعش”.
ولكن أعداد عناصر التنظيم المتشدد ارتفع بدرجة كبيرة داخل المدينة مؤخراً قياساً بالفترة الأولى لدخولهم اليها في 30 كانون الثاني (يناير) الماضي إذ كان عددهم لا يزيد عن 600 شخص، لكن العدد تجاوز اليوم عن 2000 عنصر بعد انضمام العشرات إليهم من المحافظات العراقية الأخرى ومن سوريا، كما أن داعش استغل مشاعر الحزن والكره والرغبة بالثأر لدى العشرات من الشباب الذين فقدوا عائلاتهم او أفراد منها بسبب قصف الجيش.
وبحسب إحصائية وزارة التخطيط فإن عدد سكان الفلوجة قبل محاصرتها كان يبلغ نصف مليون شخص غادر أكثر من 70 في المائة منهم المدينة، والباقون يعيشون على الحظ كما يقول واحد من السكان الباقين ويدعى كريم البجاري.
وذكر البجاري لـ “نقاش” “نعيش مثل لعبة الاختفاء التي يلعبها الأطفال ونحاول اللوذ بمكان آمن هرباً من القصف، والطائرات تلاحقنا”.
وعلى الرغم من أن المدينة مُحاصرة بالكامل كما يقول الملازم في الجيش كريم المعموري، إلا أن المسلحين يمتلكون طرق خاصة بهم للمرور عبر بساتين وأشجار كثيفة تربط الفلوجة بمناطق شمال بغداد ومنها يقومون بتوفير مستلزمات السكان الغذائية والطبية باعتبارهم المسؤولين عن إدارة شؤون المدينة.
التنّقل داخل الفلوجة والحصول على المعلومات أمر خطير لأن التنظيم المتشدد أصدر قراراً قبل شهرين الزم به الصحفيين في المدينة بالتوقف نهائياً عن العمل ومن يخالف القرار يعرِّض نفسه لعقوبة شديدة، كما قال أحد الصحافيين لـ “نقاش” في المدينة طالباً عدم نشر اسمه.
الذي يدخل إالفلوجة زائراً لأحد أقربائه أو ضمن مهمة إنسانية تتم مراقبته من حيث لا يدري من قبل مسلحين ملثمين ينتشرون في الشوارع ويتواصلون فيما بينهم عبر أجهزة اللاسلكي خوفاً من أن يكون الزائرون جواسيس الحكومة أو الصحفيين.
أما القتلى بسبب القصف المدفعي فقصصهم أكثر وجعاً، إذ أن المقبرة الوحيدة في المدينة والتي تعرف بأسم “مقبرة الشهداء” املها القتلى بالكامل، وأحد العاملين في المقبرة روى لـ “نقاش” بعضاً من مشاهداته خلال الأشهر المنقضية.
“في أحد الأيام اضطررنا إلى دفن أربعة أطفال في قبر واحد بسبب اختلاط أشلائهم ببعضها بسبب القصف، واليوم أصبحت المقبرة مزدحمة جداً، حتى الممرات المخصصة للمشي قمنا بدفن القتلى فيها”.
وبالإضافة إلى الضحايا من السكان المدنيين هناك قتلى المسلحين من تنظيم “داعش” وباقي الفصائل المسلحة الذين يلقون مصرعهم خلال الاشتباكات اليومية مع الجيش على أطراف المدينة ويتم جلبهم إلى وسط المدينة لدفنهم.
وبسبب اكتظاظ المقبرة بالموتى اضطر عدد من السكان إلى دفن موتاهم في حدائق المنازل، فيما يضطر سكان بعض المناطق إلى وضع جثث قتلاهم في ثلاجات المنازل إلى حين توقف القصف ليتسنى لأهلهم البحث عن قبر لهم في المقبرة المزدحمة.
والقتلى في الفلوجة لم يحصلوا حتى على آخر حق من حقوقهم بإقامة مجلس عزاء لهم كما هو مُتعارف عليه في الديانة الإسلامية، ويقول الشيخ صديق الدليمي لـ “نقاش” عن ذلك “لم نعد نقيم مجالس عزاء لقتلانا لأن مجالس العزاء التي يحضرها العشرات من الأهالي في العادة تكون هدفاً سهلاً للطائرات العسكرية التي ربما تشتبه بوجود تجمع للمسلحين فتقصف المكان “.
وذكر مسؤول في قسم الإحصاء في مستشفى الفلوجة العام الدكتور أحمد الشامي في تصريح رسمي له الأثنين الماضي إن هناك أكثر من 700 قتيل من سكان المدينة منذ بداية العام الجاري، أما الجرحى فبلغ عددهم نحو 2200 شخص، وحتى المستشفى الرئيسية في المدينة لم تنجو من القصف إذ أستهدف خمس مرات في الشهور المنصرمة.
ولم ينجح الجيش طوال ثمان أشهر مضت من اقتحام الفلوجة على الرغم من محاولات عدة، ويوضح أبو عائشة الذيابي وهو قيادي في أحد الفصائل المسلحة العراقية غير المتطرفة لـ “نقاش” نحن “ضد بعض أفعال داعش ولا نؤيدها ولكن لدينا عدو مشترك الآن وهي القوات الأمنية العراقية التي تحاول قتلنا بأي طريقة”.
ويتابع “الجيش حاول اقتحام المدينة أكثر من سبعين مرة جميعها فشلت بسبب قوة الفصائل المسلحة والعشائر في حماية المدينة وضعف تدريب عناصر الجيش وغالباً ما يهربون أمامنا عند الاصطدام معاً”.
وفي وسط المدينة تبدو الحركة غير طبيعية منذ أيام حيث يجتمع العديد من قادة الفصائل المسلحة وشيوخ العشائر من دون تنظيم داعش المنشغل في القتال على جبهات كثيرة في مناطق جلولاء والسعدية في ديالى وتكريت في صلاح الدين، وشمال الموصل في نينوى والرمادي وحديثة في الأنبار.
هذه الاجتماعات سرية للغاية، ولكن مصادر خاصة تؤكد إنها تهدف إلى مواجهة تنظيم داعش وطرده من المدينة على أن يقوموا هم بإدارة المدينة بشكل غير متشدد، لكنهم يرفضون عودة الجيش ويريدون أن تقوم الشرطة المحلية بمهام الأمن.