-1-
العداواتُ تحفر خنادق الغِل والحقد في أعماق النفوس، وهي بضاعة الأشقياء ، من غلاظ القلوب القساة، الذين يتمادون في غيّهم بعيداً عن رحاب المروءة والانصاف .
وهذا السعار المحموم يدفعُ أصحابه، الى اجتراح الاكاذيب ، وألوان البهتان، بحقّ من ينصبون له العداء، دون إحساس بوخيم العواقب وما قد ينتظرهم من مصائب .
وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من الحكايات والقصص في هذا الباب
إنّ المكائد رهيبة الآثار، ولكنّها قد ترتد على فرسانها في نهاية المطاف ومن هنا قيل :
” من حَفر لأخيه بئراً وقع فيها “
وربما شرب كأسَ السم ، مَنْ أمعن في الوقيعة بغيره .
وهنا تكمن العبرة .
-2-
ومن جميل ما قرأت :
قال ابن مسكويه في كتابه (تجارب الأمم وتعاقب الهمم)
ج3 ص 239 :
(وجدتُ في بعض الكتب :
أنّ البرامكة قصدتْ (عبد الله بن مالك الخزاعي) بالعداوة ،
وكان الرشيدُ حسنَ الرأي فيه ،
وكان يُغرونه به ،
فقال :
ماكنتُ لأنكبه ، ولكنّي أُبعِدهُ عنكم )
اننا هنا لابُدّ ان نقف متأملين :
انّ حظوة البرامكة عند الرشيد كانت قوّية للغاية حتى قيل :
انه لم يكن يصبر على فراق (جعفر) ساعة …، فكان يُحْضِرُه حتى حين يجالس أخته العباسة ..!!
وما يقال في جعفر في أبيه وأخيه …
وحين يتوالى السعي للايقاع بالخزاعي من قِبَلِهِم ،ويبقى هذا بعيداً عن أذى السلطان ، يكشف ذلك عن عمق مكانته عند الرشيد .
” فقالوا :
يُنفى
قال :
لا ، ولكنّي أوَّلِيهِ ولايةً دون قَدْره عندي ، وأُخرجّه اليها .
فرضوْا بذلك ،
وكتبوا له على (حرّان) و(الرها) فقط …
قال عبد الله .
” سرتُ الى جعفر لأُودِعه ، قال :
ما على الأرض عربيٌّ أنبل منك يا أبا العباس ،
يغضب عليك الخليفة فيوليك “
ان الذي غضب على الخزاعي هم البرامكة ، وفي طليعتهم (جعفر) وليس الرشيد .
والدليل على ذلك تعيينه واليّاً على (حرّان) و(الرها)، ولا تُسند الولايات عادة للمغضوب عليهم …
وهكذا عَبّر (جعفر) عن مشاعره الخاصة، وكأنّها مشاعِرُ الرشيد، في قراءة خاطئة لما كان يَعْتَمِلُ في نفس الرشيد ..!!
ثم قال جعفر للخزاعي :
” ينبغي أن يُضربَ، وَسَطُك ،
وتُصلب نِصفاً في جانب ، ونصفا في جانب آخر “
ومن هنا نعلم مدى العداوة الرهيبة التي كان يُكنّها (جعفر) للخزاعي بحيث انه يريده ان يضرب ضربة تشطره الى نصفين، ثم يُصلب ويوضع كل نصف في جانب من جانبيْ بغداد ..!!
يقول الخزاعي :
(فنهضتُ من عنده مغضباً ،
وأقبلتُ أتردد في أمري ،
إلاّ أني لم أجد بُدّاً من الخروج ،
فقطعتُ طريقي بالهمّ والغمّ ، لأني كنتُ لا آمنُهم مع غيبتي على السعاية بي ،
فبينا أنا عشيةً على باب الدار ، التي كنتُ نزلتُها ، جالساً على كرسي ، اذ أقبل اليّ مولىً لي
فقال سرّاً :
قد قُتل جعفر بن يحيى البرمكيّ ،
فتوهمتُ أنه قد دسّه اليّ جعفر ، ليجد عليّ حُجّةً بكلام ينكبني به ، فبطحتُه وضربتُه ثلاثمائة مقرعة،وحَبَسْتُه ليلة طويلة على سطح داري “
مسكين – هذا العبدُ المملوك للخزاعي الذي جاءه بالبشرى ..!!
بشرى قتلِ عدّوه اللدود جعفر بن يحيى البرمكي ، فاذا به يُضرب ويُحبس ويلقى ألوان العذاب ..!!
ثم جاء البريد ، يحمل رسالة الرشيد للخزاعي ويخبره فيها بقتله البرامكة ، وقبضه عليهم ، ويأمره بالشخوص اليه ..
وسارع الخزاعي الى امتثال الأمر ، وعاد الى بغداد فلقي من إكرام الرشيد له ما سرّه .
يقول الخزاعي :
( وزاد على أمنيتي ، فخرجتُ وأتيْتُ الجسر ، فوجدتُ جعفراً قد ضُرب وسطُه ، نصفٌ في جانب، والنصف الآخر بالجانب الآخر ،
فأكثرتُ حمد الله ،
وعجبتُ من الصنع اللطيف ،
ورجوع الكيد عليه )
إنّ الذي تمنّاه (جعفر) لعدوّه (الخزعليّ) حلّ به كاملاً غير منقوص …
تلك هي عُقبى الايغال في العدواة ….
أجارنا الله وإياكم من العداواتِ، ومن كلّ ما لها من تبعات …