في تقرير لإيلاف الألكترونية، نسب الى المكلف بتشكيل الحكومة العراقية القادمة الدكتور حيدر العبادي استخدامه لمصطلح (تصفير الأزمات أو المشكلات) كأساس جديد في هندسة علاقات العراق مع دول المنطقة والعالم، وهو أمر جيد ومبشر وضروري، لكن نلفت نظر الدكتور العبادي الى ضرورة تعميم هذا المبدأ كأساس لهندسة البيت العراقي الذي يأن من التشرذم والإنقسام والإرهاب والجريمة والفوضى والفساد والتنازع السلطوي المفترس للدولة، إذ لا يمكن الحديث عن علاقات ايجابية ومتنامية مع دول العالم مع عراق منقسم ومتشرذم ومتعدد الرؤوس والسياسات والإتجاهات بعدد قومياته وطوائفه وأحزابه ونخبه.
أزمات!!
أزمات تتلوها أزمات، وبين أزمة وأزمة أزمة… هذه هي طبيعة المشهد العراقي منذ انهدام الدكتاتورية في 2003م، وما نشهده اليوم من تداعيات سياسية وأمنية ومجتمعية دالة على ذلك،.
اليوم نحن في خضم أزمة ممتدة أنتجتها عملية سياسية ولادة للأزمات، العراق اليوم أسير أزمة لا تحمل عنصر المفاجأة بقدر ما تعيد المألوف من أخطاء التأسيس والإدارة والتعاطي مع تسوية وإدارة الأزمات،.. أزمات تعيد إنتاج ذاتها لدى كل استحقاق وطني يروم التأسيس وإعادة البناء لمقومات الدولة.
تشخيص الأزمة
إنها ليست أزمة أمنية أو سياسية أو مجتمعية أو اقتصادية صرفة تلك التي يعاني منها العراق حاليا.. هي كل ذلك،.. هي أزمة بنيوية تتصل بكافة بنى وسياقات الدولة، هي أزمة نظام سياسي
يراد منه ومن خلاله إنتاج دولة، فغدى بذاته أزمة، منتج للأزمات، نسّاخ لها،.. إنه أزمة النظام التوافقي العرقطائفي الحزبوي المحاصصي.
هنا الأزمة العراقية، إنها تتجسد في أخطاء التأسيس، لقد استدعت العملية السياسية مبادىء المكوّن والتوافق والمحاصصة والشراكة والآدلجة مقابل مبادىء المواطنة والديمقراطية والمواطنية والمدنية والتضامن،.. فشرعنت انقسام الأمة، وقسمت جسد الدولة، فابتلعتها الأحزاب، وتسيدت فيها قيم الفوضى والفساد، وأخذت الدولة تعيد انتاج أزمتها الوجودية: أزمة وحدة أمتها السياسية وواحدية سلطاتها الشرعية وحاكمية مؤسساتها السيادية ومدنية حياتها القيمية.
لماذا لا نعترف
لماذا لا نعترف بفشل صيغة النظام التوافقي العرقطائفي المحاصصي في إنتاج الدولة؟ ها نحن بعد عشر سنوات في ذات مربع التأسيس للدولة لم نغادره البتة، وكل ما لدينا مختلف عليه من دستور وأنظمة وقوانين ومؤسسات حتى إننا لم نتوحد الى اليوم حول رموز الدولة السيادية من علم ونشيد وطني!! ها نحن بعد عشر سنوات نتخندق في جبهات سياسية عرقطائفية حزبوية قتلت أمة الدولة وشيئتها الى أمم شيعية سنية كردية تركمانية كلدوآشورية..!! ها نحن بعد عشر سنوات نعاني إنشطاراً مجتمعياً وتعدداً في مراكز السلطة وتنازعاً مريعاً على السلطة والثروة وسط إرهاب ضارب وفساد مستشر وفوضى متسيدة!! وها نحن أنتجنا بنية غير حاسمة لشكل الدولة، فلا هي مركزية، ولا مركزية، ولا فدرالية، ولا كونفدرالية.. هي هجين لم تتحدد صيغتها بعد!!
بصراحة تنزف مرارة أقول: إنَّ جميع مستويات الإنهدام الحالي الأمني والسياسي والمجتمعي والإقتصادي تتصل بالبنية الخاطئة لمشروع الدولة التوافقية العرقطائفية الحزبوية المحاصصية التي أثبتت بحق أنها الصيغة الأمثل لنحر الأمة والدولة معا، وكما أنها أزمة نخب دولة هي أيضاً أزمة سياسات ادارة للأزمات الداخلية والخارجية التي تتصل بحكم الدولة.. وما لم تتظافر الإرادات الوطنية لوضع الحلول لأزمات الدولة بوعي وإرادة وطهورية هذه المرة فلا يمكن التنبؤ بمديات الكارثة التي ستحل بالدولة والأمة،.. وفي تصوري إنها الفرصة الأخيرة لتدارك حجم الإنهيارات والإنهدامات التي تعصف بكيان الدولة، بلحاظ خطورة الواقع العراقي والمتغيرات التي تشهدها الخارطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط والتي وضعت العراق في عين العاصفة، وأيضاً انعكاسات حرب الستراتيجيات الدولية والإقليمية التي ظهرت آثارها المباشرة في المناطق الرخوة،.. والعراق جبهة رخوة بفعل بنيته الحالية.
خياران
وضعت العملية السياسية حملها وأنجبت نظاماً توافقياً حزبوياً محاصصياً ابتلع الدولة وشيأها.. هذا الذي نراه، ولم يعد من المناسب القول أنَّ هناك حملاً آخر تختزنه أحشاء العملية السياسية وفق قواعدها الحالية، لقد وضعت حملها وقضي الأمر.. إنه النظام السياسي التوافقي الحزبوي الذي ننوء باشكالياته.
خياران أمام النظام السياسي الذي أنجبته العملية السياسية: أما المضي به لآخر أشواطه دونما تغيير أو إصلاح، وأما تبني خيار التصحيح بما يبقي على الصالح من تجارب الدولة ومنجزاتها وأنظمتها وقوانينها ويعيد في الوقت ذاته إنتاج الأسس والقواعد العامة للدولة بما يمكنها من تخطي مصداتها الذاتية.
خيار المضي على نفس سكة العملية السياسية الحالية دونما أصلاح بنيوي جاد وحاسم أثبت فشله، ولا يمكن أن يجود بأكثر مما جاد، إنها سكة لم تنتج سوى الأزمات وفي المقدمة أزمة تصدع وانقسام الأمة والدولة حول قضايا الدولة الجوهرية: شكلها، هويتها، سلطاتها، ثرواتها، فضائها الستراتيجي،.. وأزمة افتقاد الدولة لنواة صلبة ينسجم فيها بعدها الفلسفي مع طبيعتها السياسية مع كتلة تاريخية من النخب الحاملة لمشروعها،.. فبعدها الفلسفي معوم وطبيعتها السياسية تلفيقية وكتلتها التاريخية متصارعة حول ذات مشروعها. وفي تصوري فإنَّ طبيعة كهذه ستنتج في أحسن الفروض دولة على النمط اللبناني (إن لم يكن النموذج الأفغاني)، دولة هشة التأسيس، مختلف فيها وعليها كطبيعة وفلسفة ووجود وكيان، تتوزعها قوى الطوائف كمحميات سياسية، مهددة في كل لحظة بالإحتراب، وهي بعد غنيمة سهلة لقوى الإستلاب والهيمنة الدولية.
خيار التصحيح هو الخيار الأمثل لإعادة إنتاج الأمة والدولة، وهو خيار يتطلب تبني نظام تسوية الأزمة لا إدارتها وحسب، فمراحل التأسيس لقضايا الدولة الرئيسة تتطلب حسماً واضحاً يستند الى تسويات كبرى لضمان تكوين نواة صلبة للدولة بما يمكنها من مواجهة التحديات والمضي في التطور.
المطلوب تسوية شاملة لكافة قضايا الدولة، ودعني أقول صفقة تاريخية يشترك فيها نخب الأعراق والطوائف والإثنيات العراقية لإنجاز نواة صلبة لمشروع دولة قابلة للحياة، يتم الإتفاق على شكلها وهويتها وموارد التنازع حول قضاياها الأهم: السلطة والثروة والسيادة.
تصفير الأزمات
أيتها القوى السياسية التي بيدها فعل الدولة ومصيرها: عليكم بتصفير الأزمات العراقية العراقية قبل تصفير أزمات العراق مع العالم، فلنكن دولة أولاً ثم نتحرى ترميم علاقاتنا الخارجية.
ماذا أريد بتصفير المشكلات العراقية العراقية؟ أريد به: ابداع لحظة بكر، لحظة بدء تنتزع نفسها من لحظات الأزمة، لحظة تفترض الإنطلاق من الصفر لمناقشة قضايا الدولة الرئيسة،.. تصفير الأزمات هي لحظة شروع تاريخية مكثفة تبدعها وتباشر بها القوى السياسية العراقية المعنية بصناعة الدولة لحسم مشروع الدولة النهائي،.. تجتمع هذه القوى لتصفر الأزمات، تفترض عدم وجود أزمة أو مشكلة، تتناساها، وتبدأ من لحظة شروع حقيقية لتطرح قضايا الدولة كافة، بغية الإتفاق والحسم على أرضية تسوية تاريخية لأزمات الدولة المزمنة.
نحن الآن نختزن تجارب تاريخية نوعية، اختبرناها ووعينا نتائجها، مما يعطينا القدرة على استحضار التجربة ومعطياتها ومآلاتها،.. فنحن إذ نباشر بلحظة تصفير الأزمات نختزن وعياً تاريخياً وتجربة نوعية ثرة لتاريخ الدولة العراقية ومحطاتها،.. لقد عشنا نموذج الدولة المستبدة وشهدنا انتحارها، ونعيش نموذج الدولة التوافقية العرقطائفية المحاصصية ونشهد انهداماتها،.. هذا يعني أننا لا نناقش فرضيات لا نعلم نتائجها، ولا نشتغل بأسس لا نحيط بمدياتها،.. وستكون لحظة التصفير مختزنة لتاريخ الدولة الصالح منها والطالح، وكافة الطروحات سيحاكمها اللا وعي قبل الوعي لقبولها أو رفضها على أرضية التسوية النهائية لمأزق الدولة، إنها ليست ذخيرة وعي تاريخي وحسب بل هي أيضاً ذخيرة تجربة ما زلنا نكتوي بنارها،.. إن ذخيرة الوعي والتجربة خير أداة لإستشراف ورسم المستقبل.
لحظة التصفير لا تعني اختلاساً لزمن تنعدم فيه الذاكرة والقيم ومعالم الطريق، فهي ليست لحظة فراغ يستفيد منها أعداء التغيير من ممجدي الدكتاتورية وعاشقي الإرهاب ودعاة التخريب وأرباب التسلط وسدنة الفساد،.. بل هي لحظة قوى الدولة المؤمنة بالتغيير البناء والباحثة عن مخرجات للأزمة، أزمة الدولة التي ينوء بها مجتمعها ونخبها.
تصفير الأزمات لا يعني انكار وجودها ولا التنكر لأسبابها، بل يعني ألآّ نجعل من المشكلات خط شروع في الحوار والتضامن الوطني، لضمان التحرر من العُقد والتعقيد والإتهامات وفقدن الثقة،.. إنَّ مقومات الحوار حاسمة في تلمس مخرجات الحلول لتسوية الأزمات.
على مائدة التصفير
ليست كل المشكلات قابلة للحل، هذا صحيح،.. وفي بعض الأحيان يكمن الحل في اللا حل،.. وهذا صحيح أيضاً،.. وربما يفرض الواقع حلاً بحكم قوانين ومعادلات التاريخ رغماً عنا، صحيح أيضا،.. لكني أرى، حتى هذه اللحظة المثقلة بالدم والكراهية والإنقسام والإرهاب والفوضى.. أنَّ الحل ممكن، وأنَّ الحل مراد الجمهور ومبتغاه.
مهمة القوى السياسية تدراك الحل للحفاظ على الأمة والدولة من أن تعصف بهما أزمات الإنهدام والتقسيم،.. وعلى مائدة التصفير للمشكلات إنقاذ الموقف قبل بلوغه نقطة اللاعودة،.. لتعرض جميع الحلول بنية صادقة ولتناقش من خلال لحظة شروع حقيقية لا غالب فيها ولا مغلوب ولا رئيس فيها ولا مرؤوس.. حوارات تؤمن بوحدة الأرض والأمة والدولة، وتنطلق من خلال ثوابت المواطنة والديمقراطية والمدنية والتعايش والسلم.. لتلمس مخرجات للأزمة، لتلمس سيناريوات الحل للخروج من مأزقنا التاريخي.
يجب ألا تغيب الحلول تحت أي ظرف، فمن الخطأ الإقرار باستحالة الحل، دائماً هنالك حلولا، وهنا يجب عدم الإستسلام للحظة المأزومة، فالإستسلام موتا. وبلحاظ تشظي وتعقيد الواقع فالمطلوب تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية على اساس من شراكة ومشاركة فاعلة تضمن انخراط جميع القوى السياسية في بناء وإدارة الدولة، بشرط أن يصار هذه المرة الى وضع
تصورات شاملة لطريقة إدارة الدولة وملفاتها الخلافية السياسية والأمنية والإقتصادية بعيداً عن الترقيع أو الإحتكار أو التفرد أو الإقصاء.
مصير الدولة بيد نخبها، وعلى نخبها حسم الخيارات بوعي وإرادة لتلمس حلولاً نهائية لأزمات الدولة قبل أن يفرض الواقع حلاً قد نندم عليه،.. فمن السذاجة التصور أننا نشتغل بمعزل عن الواقع والتاريخ،.. ما زال العراق وسيبقى دولة محورية ذات ثقل نوعي يهم العالم مصيرها،.. فعلى نخب الدولة إدراك حجم مسؤولياتها التاريخية لإنتاج دولة وسط هذا التعقيد الكوني.
أفترض بالنخب الحاكمة القادمة أن تكون نخبة تأسيس ككتلة تاريخية وطنية مدنية مدركة لطبيعة الأزمة العراقية ولخطورة انفتاحها على حرائق الشرق الأوسط، كتلة تاريخية تعيد إنتاج الدولة بعيداً عن أزماتها المزمنة لضمان نجاتها،.. فهل سننجح هذه المرة بانتاج كتلة تاريخية تأسيسية حاكمة قادرة على رسم خارطة طريق للخروج من نفق أزمات الدولة المزمنة وفق أرضية التسويات التاريخية الكبرى، أم سنعيد إنتاج الأزمات بأفكار ونخب الأزمات؟ سؤال برسم النخب الحاكمة الجديدة.
*[email protected]