كل العالم، بشرقه وغربه، منشغل هذه الأيام بلغز البعبع الجديد “داعش”، ومُستنفر لمواجهته وهزيمته ومنعه من التوسع، لأنه، كما قال عنه أوباما “سرطان”، بعد اقترابه من أربيل، وبعد قيام أحد “مجاهديه” البريطانيين بقطع رأس الصحافي الأميركي جيمس فولي. والأغرب من الغرابة ذاتها أن أوباما، سيد البيت الأبيض، بجلالة قدره وجبروته، يدعو حكومات الشرق الأوسط وشعوبه إلى العمل معاً “لاستئصال هذا السرطان، لكي لا يتفشى”. ثم يهرع القادة الأوربيون جميعهم إلى النفخ في الصور معلنين النفير لوقف هذا الطيف المزعج الذي ألم بالعالم، فجأة ودون مقدمات.
وكأن أمريكا، بكل جبروتها، وأوربا، بكل أقمارها وبوارجها وصواريخها وطائراتها وأذرعها الأخطبوطية الممتدة في غرف نومنا كلها لا تستطيع دفنه في أيام.
ثم، كأن أمريكا وأروربا، معا، لم تكن تعرف، وما زالت لا تعرف كيف ولد داعش، ومتى وأين، ومن مول وأمد قطعانه السائبة بالقوة، من أول وراثته للزرقاوي في العراق، وإلى انفصاله عن القاعدة وانتقاله إلى سوريا وبدء (جهاده) ضد المعارضة السورية الديمقراطية الوطنية العاقلة العادلة.
ثم، كأنها تجهل حقيقة التواطؤ الإيراني السوري مع داعش، وسر السماح باندفاع طوفانه المتدفق، بسر وسهولة ودون مقاومة من أحد، في شمال سوريا ووسطها، والسكوت الكامل ثلاث سنوات، إيرانيا وروسيا وأمريكيا وأوربيا، عن فتكه اليومي بأطفال مدن الرقة وحلب ودير الزور ونسائها وشيوخها، بالسكاكين والفؤوس، فقط لأنهم هتفوا ذات يوم ” الشعب يريد إسقاط النظام”.
ولكي لا نطيل الجدل أطلب من كل قاريء أزعجه عنوان مقالي هذا أن يأخذ (الريموت كونترول) ويقوم بجولة على الفضائيات الدينية، وهي بالعشرات، بل بالمئات، والتي يحتضنها (النايل سات) ويدخلها منازل الملايين من العرب والمسلمين، ربما فقط بحب المال، أي مال، أو بأوامر خفية أخرى من واحدٍ لئيم يريد لهذا الفكر الأسود الحيواني أن يظل على الهواء طويلا وأن يتمدد، بين العرب والمسلمين، بشكل محدد ومحكم وخاص، ليشغلهم جميعا بتقطيع أوصال بعضهم بسيوف بعض، إلى ما لا نهاية، (بأسهم بينهم) و(فخار يكسّر بعضه).
وأغلب من يظهر على هذه الفضائيات، مُعمما كان أو أفنديا، سنيا أو شيعيا، يستطيع المشاهد المتنور أن يرى السم وهو يقطر من عينيه، والتخلف والجهالة طافح على جبينه المختوم بدمغة سوداء من أثر السجود.
يلتصق بالشاشة صباحا وظهرا وليلا فقط، مسترسلا، مبتسما مرة، وباكيا بحرقة وبدموع ساخنة مرة أخرى، زيادة في الإيمان، وحماسة في الخير والصلاح، وهو لا يضخ على مشاهديه (الأفاضل) إلا حكايات وكرامات ومعجزات وبطولات أقرب إلى الأساطير والخرافات الساذجة.
بعضهم يملك براعة في التمثيل والتلفيق والتزوير، وقدرات هائلة على التضليل وإلباس الحق بالباطل، وتغليف المفاهيم الظلامية السامة بثياب العلم والحقيقة وصدق البيان.
إنهم هم من عشرات، بل مئات السنين، لم يملوا من ترديد نفس الأراجيف ولم يتوقفوا ولو يوما واحدا عن تعميق الحقد والضغينة، وإشعال الفتنة والاحتراب، لا بين دين ودين وحسب، بل بين أهل الدين الواحد والمذهب الواحد كذلك.
كل واحد منهم يفسر نفس الآية ونفس والحديث ونفس السيرة ويتلاعب بها ويحرفها عن مضمونها الحقيقي لتناسب أهدافه وأهواءه المذهبية أو الدينية أو الدنيوية التي يتعصب لها، والتي لا يرى في غيرها إلا المُروق والفسوق والخسران العظيم.
فتشوا بين هذه الفضائيات، والإذاعات أيضا، وكذلك الجرائد والدوريات والمواقع الإلكترونية، عن واحدة منها لم ولا تبارك أفكار داعش، ولا تبشر بانتصاراته الظافرة القادمة لا ريب فيها، بأمر الله ووعده لعباده المؤمنين الصابرين المصابرين المجاهدين النافرين لتطهير الأرض من الشرك والمشركين.
ثم جدوا لي واحدة لا تجيز قطع الرؤوس والألسن وقلع الأعين وأكل الأكباد وحرق البيوت مع سكانها، دفاعا عن دين الله ورسوله.
هل داعش هو الذي اخترع الذبح بالسكين، وهل هو وحده الذي علق الجثث على أعمدة النور؟ أليست هذه أدنى درجات العنف المتوارث عبر تاريخنا الطويل وأرحمها وأقله دموية؟
وقتلُ الأزواج المنكوبين بداعش، واغتصابُ زوجاتهم، واستخدام أطفالهم في ساحات القتال، أليست نهجا عاديا، بل محمودا في سجلات الجانب الأسود من تراثنا البغيض؟
من أين كل هذه الأموال التي تُهرق وتُحرق بالملايين، كل يوم، وكل ساعة، على هذه الفضائيات والإذاعات والصحف والمواقع والمؤتمرات والمهرجانات لنشر السموم وقتل العقل وذبح العدل ودفن الرحمة والمودة والتسامح في قلوب الناس؟
وكيف ولماذا تسمح الحكومات العربية والإسلامية (غير الداعشية) لبعض مواطنيها بغسيل أموال المخدرات والتجارة بالدين والمفخخات، علنا وعلى الهواء مباشرة، ودون خوف وخجل؟.
إن من يريد أن يهزم الإرهاب، إن كان صادقا وأمينا وشريفا، أن يفتش عن أصله وفصله، وعن أبواقه وأذنابه وجواسيسه و”مجاهديه” في هذه الفضائيات والإذاعات والصحف والمواقع الإلكترؤونية، وفي المساجد والحسينيات والمدارس الدينية المنتشرة أكثر من الهم على القلب، ليس في بلادنا العربية والإسلامية وحدها بل في أمريكا ودول أوريا العلمانية الواقف حكامُها اليوم كمن لدغته أفعى ناقمين على داعش، وداعين إلى وقف انتشار سرطانه المخيف، وهم الذين أشعلوا فتيله وأطلقوا شرره على العالمين.
إن جذر داعش ضارب في أعماق تاريخنا العربي الإسلامي الطويل، وبعضُه قادم إلينا من أعماق تواريخ شعوب كثيرة غيرنا، في شرق الأرض وغربها معا، أما فروعه فها هي معلنة وصارخة بأعلى ما في مكبرات الصوت الحديثة من قوة، في كل مدينة وقرية، وموجودة في كل قبيلة وحزب وبرلمان وحكومة. أليسوا جميعا أحفاد طائفة الحشاشين الإسماعيلية النزارية التي انفصلت عن الفاطميين في أواخر القرن الحادي عشر ميلادي واتخذت القلاع الحصينة في قمم الجبال معاقل لنشر دعوتها في إيران والشام؟؟.
عودوا إلى تفاصيل الاستراتيجية العسكرية لـ “جهاد” الحشاشين، وقولوا لي أين تحتلف عن “جهاد” داعش؟ أليست هي ذاتها التي تجاهر بأفعاله وتروج، هي بنفسها، أخبار الاغتيالات وقطع الرؤوس وسلق الجثث بالماء المغلي؟
إننا الآن في العام 2014، ويخبرني ضابط أمني في جهاز مخابرات عربية عريقة برتبة عقيد بأن عديله من عشرين عاما مُحرمٌ على زوجته وأطفالها زيارة منزل أختها لأن فيه أداة رذيلة وفجور، جهاز تلفزيون.
بماذا تختلف داعش عن عدوانية الإخوان المسلمين وجهالتهم وانحرافاتهم وتزمتهم المقيت؟، وبماذا تحتلف عن عصائب الحق وحزب الله وجيش المهدي وأبي فضل العباس وأنصار الشريعة الليبية والحوثيين؟
إن كيان داعش الجديد، رغم سعة أرضه وقوة جبروته، ليس سوى فقاعة ستنتهي وتختفي عما قريب، لأنها ضد منطق العصر والمنطق والطبيعة. إن هزيمته سهلة، ولكن ماذا عن البيئة التي أنتجته والتي لن تتوقف عن إنتاج عشرات، وربما مئات غيره، من الكيانات الشاذة التي لا تضم إلى قوافل “مجاهديها” غير الفاشلين المأزومين المحبطين الفاسدين المنحرفين والذين تحجرت قلوبهم وخلت من كل ما يصلها بالإنسان.
إن خداع الجاهل وجره إلى أوكارهم أسهل على المنحرفين من خطباء المساجد والحسينيات والفضائيات الدينية من مواطن سوي متنور وذو عقل سليم.
إن الإرهاب واحد لا يتجزأ. فكل استخدام للعنف، أيا كان نوعه ودرجاته، من أجل فرض إرادة واحدة وتحقيق أهداف دينية أو مذهبية أو قومية أو سياسية أو اقتصادية إرهاب لا يجوز القبول ببعضه ورفض بعضه الآخر، ولا يفعل ذلك غير المنافقين والملفقين والمزورين والمباركين للجريمة والعاملين على استمرار المذابح وازدحام المهجرين، لا أياما وأسابيع، بل شهورا وسنين .