18 نوفمبر، 2024 3:17 ص
Search
Close this search box.

التدخل الأمريكي: درهم وقاية أم قنطار علاج؟

التدخل الأمريكي: درهم وقاية أم قنطار علاج؟

هل هي استراتيجية أمريكية جديدة؟
بعد طول تجاهل، وبعد كل ماقام به تنظيم داعش طوال عام من الزمن في سوريا والعراق من أعمال، أبسط مايمكن أن يقال عنها أنها جرائم ضد الإنسانية، صحا أوباما فجأة من غفلته ليأمر بضربات جوية محدودة، وأشدد على كلمة محدودة، ضد هذا التنظيم، في العراق دون سوريا!!

لم تكن الإدارة الأمريكية تحتاج إلى ذرائع لتضرب في أي مكان من العالم بدعوى مكافحة الإرهاب القاعدي بشكل خاص. ولم تعر انتباهاً لأي من الأصوات المعترضة هنا وهناك على جهودها تلك من أية جهة صدرت. وقد جندت لهذا الهدف أسطولاً جوياً كبيراً من الطائرات بدون طيار، ودعمته كلما اقتضت الضرورة بقوات المارينز ووحدات العمليات الخاصة. هذا بعد تدخلها المباشر في أفغانستان والعراق وغزو البلدين بمئات الآلاف من جنودها، بعد تسويق الذريعة ذاتها بضرب القاعدة ومناصريها. أما وقد جاءت القاعدة جهاراً نهاراً لتقوم بعملياتها الشنيعة من تهجير وقتل ورجم وصلب وقطع الرؤوس في الشوارع ومن تدنيس للكنائس والمقدسات الأخرى وتفجيرها، طوال هذه المدة لإقامة دولتها الطالبانية في سوريا والعراق، أمام سمع ونظر العالم أجمع، وفي مقدمتهم الأمريكان، دون أن يعترض سبيلها أحد من المعنيين في محاربة الإرهاب، ودون أن يقول لها أحدٌ “أف”. لابل إفساح المجال أمام قوات داعش مع كامل أسلحتها للتحرك بأرتالها الطويلة بكامل الحرية ودون أي عائق، بين سوريا والعراق في صحراء وطرق مكشوفة، فهذا مدعاة لأكثر من تساؤل عن الهدف والغاية الأبعد من سلوك التجاهل من قبل أوباما لأكثر من عام على نشوء هذا التنظيم واستيلائه على أراض ومدن وبلدات سورية عديدة وممارسته أبشع الجرائم فيها ليصدر قرار الضربات الجوية المحدودة والمنتقاة بعناية الآن. وفقط في العراق؟؟؟

لقد حاول الأمريكان ومنذ “غزوة مانهاتن” الحد من التطرف الإسلامي حول العالم وبأساليب ومعالجات مختلفة، كانت في الغالب ذات طابع عسكري. إلا أن الحصيلة لم تكن مرضية على الدوام. ولعل حادث الهجوم بالصواريخ في سبتمبر 2012 على القنصلية الأمريكية في بنغازي بليبيا ومقتل السفير الأمريكي وثلاثة آخرين، رغم المساعدة الكبيرة التي قدمتها أمريكا لليبيين للتخلص من القذافي، أبلغ مثال على ذلك. فبرغم توفير أمان نسبي من العمليات الإرهابية الكبيرة على شاكلة 119. لكن الواضح أن كلفة ذلك التأمين النسبي كانت باهظة على الدول الغربية عموماً وعلى أمريكا بوجه خاص. لأنها تتطلب مراقبة دائمة وعلى مدار الساعة لأي تحرك يثير الشبهة في أية بقعة من العالم حتى ولو كانت رسالة إلكترونية من بضع كلمات. وهذا يتطلب تجنيد أعداد كبيرة جداً من المخبرين والعملاء والمترجمين وأجهزة مخابرات تتضخم باستمرار مع تزايد المهام وتعقدها. إضافة إلى تسخير أموال طائلة لاستخدام أحدث الأجهزة وتطويرها باستمرار للتمكن من القيام بالمهام المرجوة للقضاء على أي تحرك أو مشروع هجوم إرهابي وهو في المهد.

إزاء هذه المجهودات الكبيرة للحرب على الإرهاب والوقاية منها، ورغم النجاح الحالي المنظور في الحد من الهجمات الإرهابية في الغرب عامة، لكن التطرف الإسلامي والنزعة للقيام بعمليات على غرار هجمات 11 سبتمبر ظلت تتنامى وتتزايد بين الأجيال الشابة الناشئة في المجتمعات الإسلامية المحافظة عموماً. وهكذا يظل الخطر قائماً وربما يتصاعد مع التقدم العلمي وقدرة المجموعات والتنظيمات المتطرفة الاستفادة من تكنولوجيات متقدمة مما قد يمكنها في لحظة ما من إنتاج سلاح تدمير شامل أو أي سلاح آخر، واستعماله في غفلة من أجهزة مكافحة الإرهاب. مما يعني حصول كارثة حقيقية لايمكن تحمل تبعاتها.

وبغض النظر، وحتى لو لم يتمكن أولئك المتطرفون من القيام بأي عمل إرهابي ناجح في الدول الغربية في المدى المنظور، فإن الخطر يبقى قائماً على المدى البعيد، وربما تزداد فرص نجاحه، إضافة إلى أن هذه المجتمعات المنفتحة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحركياً على العالم أجمع، لايمكنها أن تتحمل على المدى الطويل إجراءات التفتيش والتدقيق الشديدة لأنها تعيق حرية الحركة التي بني على أساسها ذلك الانفتاح، فتحد بالتالي تلك الإجراءات من إمكانات التطور والازدهار لهذه المجتمعات.

وداوها بالتي كانت هي الداء

تقول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في تصريحات لها مؤخراً ونشرتها وسائل الإعلام الأمريكية: “الفشل في بناء قوات مقاتلة ذات مصداقية من المعارضين لنظام بشار الأسد، تضم الاسلاميين والعلمانيين ومختلف مكونات منطقة الشرق الأوسط، الفشل في ذلك هو الذي أوجد فراغاً، وهو الفراغ الذي ملأه الجهاديون الآن”. ووافقها في ذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير. والتساؤل الآن فيما إذا كان ذلك فشلاً أمريكياً أم تفشيلاً متعمداً عن سابق تصور وتخطيط وتنفيذ؟؟

الفشل الأمريكي الواضح لم يكن في هذه القضية وإنما في مسألة مكافحة الإرهاب والقضاء عليه بشكل جذري. ولهذا كان لابد من التفكير بطريقة مختلفة، وانتهاج أساليب غير عادية لإحراز نتائج أفضل. فمجرد ضرب الإرهابيين في مواقعهم وتجفيف منابع تمويلهم وإصدار قوانين وتشريعات تحد من حركتهم ونشاطهم، والسماح للمرأة بقيادة السيارة في مجتمع كالمجتمع السعودي يبلغ الغلو فيه أعلى درجاته من التشدد الديني، أو دعم المجموعات الأخرى من المعتدلين لمواجهتهم، مجرد القيام بذلك لايعني أن نزعة التطرف في هذه المجتمعات قد انتهت أو تناقصت. بل العكس من ذلك. إن عشرات الآلاف من الجهاديين المتطوعين “للاستشهاد” في سوريا والعراق جاؤوا في غالبيتهم من هذه المجتمعات الإسلامية المحافظة، إضافة إلى التمويل الكبير، بالرغم من كل الإجراءات الحكومية الرسمية لمنعهم من ذلك. لذا كان لابد من معالجة التربة الخصبة التي تنتج أفكار التطرف الإسلامي تلك. ومن هنا قد يكون تطبيق المثل الشعبي القائل: وداوها بالتي كانت هي الداء، الوسيلة الأنجع لدحر الإرهاب والقضاء عليه في منابته الأصلية.

وللشفاء من هذا المرض العضال الذي استفحل على شكل تطرف ديني عنيف يمكننا الاستنتاج أن الأمريكان عوضاً عن مواجهة هذه التنظيمات المتطرفة عسكرياً والقضاء عليها، قد يكونوا غيروا في استراتيجيتهم وباتوا يفسحون المجال أمامها للتمدد والتوسع والسيطرة على مجتمعات إسلامية سنية بشكل أساسي لتحكمها وتمارس عليها كل مايخطر ببال المتطرفين الإسلاميين من سلوكيات مقززة يعتبرونها من أساسيات الحكم الإسلامي الصحيح. وهذا بلا شك سينفِّر تلك المجتمعات منها ومن سلوكيات جهادييها. وستتحول مشاعر الكراهية والحقد إلى التطرف الديني وسلوكياته الغريبة التي لن يتحملها

الناس عوضاً عن توجهها لأمريكا والغرب.مما سيدفع بالنهاية بهذه المجتمعات إلى النفور من أولئك المتطرفين ونظام حكمهم زبالتالي الثورة عليهم ومحاربتهم. وهذا الأمر كفيل بالقضاء على التطرف وعوامل نشوئه ونموه، بعد أن كانت هذه المجتمعات ذاتها الحاضنة الأساسية له والمنابع التي استمرت طوال السنوات الماضية بمده بالمتطوعين والأنصار والداعمين والممولين.

قد يكون هذا هو الدافع الأساسي الذي حدا بالرئيس الأمريكي للإحجام عن القيام بأي عمل جدي وفعال على الأرض بما فيه دعم المعارضة السورية المعتدلة للحد من تمدد ونمو داعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة، والتغاضي المتعمد عن طرق ووسائل إمدادها بالرجال والمال والسلاح وكل مايوفر لها من أسباب القوة والتوسع على حساب القوى الأخرى المعتدلة من أصحاب المشروع الوطني الحقيقي.

على ضوء هذا التحليل ووفق هذا المنطق، وبالعودة إلى عنوان المقال نرى أن التدخل الأمريكي اليوم بضربات جوية على بعض المواقع لداعش في العراق والمنتقاة بعناية وحرص شديدنين ، نرى أن هذا التدخل لا هو درهم وقاية لأن هذا فات أوانه والمرض قد استفحل. ولا هو قنطار علاج، لأن المعالجة الجذرية تستدعي البتر. وهذا لم ولن يحصل، وفق تصريحات أوباما نفسه.

القضية إذاً ماهي إلا رتوشات تزيينية تحفظ للإدارة الأمريكية بعضاً من ماء الوجه إزاء المنتقدين، وتعدل في خط الحدود الفاصل بين المصالح الآنية والمصالح الكبرى. أما البقية فما هم إلا ضحايا يسقطون مع قليل من الأسف أو ربما بدونه. تلك الضحايا التي لابد منها على طريق مسيرة التاريخ الكبرى، حتى وإن تجسدت بشكل إبادة جماعية لشعوب أصيلة في المنطقة باتت اليوم في عداد الأقليات.

أحدث المقالات