19 ديسمبر، 2024 12:43 ص

التذمر طريق للعزلة والوحدة

التذمر طريق للعزلة والوحدة

عندما تحتك بالشخصيات النكدية التي لا تنقطع على التذمر وتجد نفسك من دون قصد تبتعد عنها تدريجيا تدرك أهمية أن يتعامل الشخص بإيجابية مع كل ظرف ومع المقربين منه.

أحيانا تجالس أو تلتقي أناسا بسطاء من الأقارب أو الأحباب أو الأصدقاء فتشعر براحة نفسية. وتمضي معهم وقتا ممتعا ترتاح فيه ويزوّدك بشحنة من التفاؤل ويخرجك من الروتين. هذه الفئة لا تضم بالضرورة أشخاصا سعداء في حياتهم بل في غالب الحالات يكونون من الراضين بواقعهم ويتعاملون مع مشكلاتهم اليومية ببساطة. وغالبيتهم لا تعقّد المسائل بل تحاول تبسيطها وترضى بما لديها على قلته أو وفرته.

وفي بعض الحالات يكفي أن تتحدث مع شخص واحد حتى تمتلئ تشاؤما وأسفا ويأسا. ويعكر مزاجك من كثرة الشكوى والبكاء والتذمر من ظروفه وحياته ومشكلاته. هذا النوع من الناس يبث في المحيطين به موجات سلبية قد تجعلهم مع الوقت يملون من الاستماع إليه ويهربون من الالتقاء به أو التحدث معه وتجد نفسك مع مرور الوقت تتجنبه وتبتعد عنه مهما كان نوع العلاقة التي تربطك به.

تقول الحكمة إن القناعة كنز لا يفنى، لكن على ما يبدو فإن كلمة القناعة لم تعد تجد لها مكانة عند الناس اليوم. فالجميع نساء ورجالا شيبا وشبابا باتوا يلهثون وراء المادة والمظاهر إلى درجة أننا أصبحنا نطلق على العصر الراهن عصر المادة. أهمل الناس تلك الحكمة وفقدت القناعة معناها. ومهما كانت الأسباب والدوافع فإن الثابت أن ضغط الحياة اليومية وكثرة الصعوبات التي يواجهها الواحد منا في طريق تحقيق أهدافه وطموحاته يجعلانه يشعر بالإحباط ويفقد الطريقة المناسبة لتحقيق التوازن النفسي بين الموجود والمنشود.

ومن الطبيعي أن يشتكي الإنسان في بعض الحالات معاناته من ظرف معين يمر به ومن مشكلات أثقلت كاهله. ويختار لأجل ذلك الحديث مع المقربين منه ليخفف عن نفسه ويرتاح أو ليبحث عن النصح والحلول.

لكن من غير الطبيعي أن يصبح التذمر عادة من العادات السيئة التي اقترنت به وترسخت في طباعه. فبعض الأشخاص يستهويهم دور الضحية ولشدة ضعفهم وتواكلهم يكتفون بالشكوى والبكاء، ويحمّلون الآخر والقدر سوء أحوالهم، إن كانت فعلا سيئة. هؤلاء يهربون من تحمل مسؤولياتهم ومن تحمل نتائج أفعالهم وأخطائهم أيضا.

اللافت في المسألة أن يتحول التذمر والشكوى إلى مكون ثابت في شخصية الإنسان وإلى طبع راسخ فيه. فيوفر للمحيطين به حتى من أفراد أسرته حججا وجيهة لتجنّبه أو الابتعاد عنه وأحيانا التخلي عنه. ولا يتفطن المتذمرون إلى أنهم يزيدون وضعهم سوءا باستمرارهم في الشكوى إلى أن يخسروا العديد من العلاقات. وإذا تأملنا في محيطنا لوجدنا أن العديد من العلاقات الاجتماعية من صداقات وعلاقات عائلية وكذلك العديد من الأسر قد تفككت بسبب التذمّر الذي أصبح طبعا راسخا في صاحبه.

ويفتح وجود فرد متذمر ومتشائم دائما في الأسرة الباب أمام تعطل لغة الحوار وأمام الملل الزوجي، كما يعكر الأجواء داخل البيت ويملؤها بالنكد. وهذه التداعيات قد لا تكفي ليتفطن المتذمر أن عليه التوقف على هذه العادة السيئة، ما يستوجب برأيي تحفيزه على زيارة طبيب نفسي للمعالجة، لكي لا تزداد أوضاعه النفسية سوءا ولكي ينقذ ما تبقى لديه من علاقات اجتماعية وأسرية.

وأثبتت الكثير من الدراسات الاجتماعية الحديثة أن الكثير من حالات الانفصال بين الأزواج ترجع إلى كون أحدهما أصبح نكديا إلى درجة لم يعد الطرف الآخر يتحملها، فيفضّل الابتعاد بعد يأسه من تغيير الوضع. ولذلك أصبحنا نجد في مجتمعاتنا العربية الكثير من الأشخاص الذين يُقبلون على ما يسمّى بدروس التنمية البشرية التي تركز على تحسين الحالة النفسية للفرد وتحفزه على التعامل بإيجابية مع ظروفه السيئة حتى لا يتحول إلى شخص لا يبث في محيطه سوى الطاقة السلبية.

وفي المقابل نجد الكثير من الأشخاص المتذمّرين باتوا يعانون العزلة والوحدة لأن أقاربهم أو أصدقاءهم ابتعدوا عنهم، لكنهم إما لا يتوصلون إلى إدراك أن نكديتهم الدائمة هي السبب وإما لا يعرفون ذلك ولا يولون أهمية لتغيير سلوكياتهم بل قد يدفعهم ذلك إلى إيجاد أسباب أخرى للتذمر واتهام الآخرين بالتخلي عنهم.

واليوم مع ارتفاع نسب التفكك الأسري وتصاعد معدل حب الذات بسبب تسارع وتيرة الحياة والضغوط التي يعاني منها الناس في حياتهم اليومية أصبحنا نلاحظ فتورا في العلاقات الاجتماعية والعائلية وقد يكون اليأس والتشاؤم والتذمر من أهم الأسباب التي تنخر العلاقات الوطيدة في صمت ودون أن ينتبه إليها أحد، فلكل شخص همومه ومشكلاته الخاصة لكن الفرق بين الشخص الصبور أو العادي وبين الشخص الذي أضاع سبيل الإحساس بالرضا يكمن في كيفية التعاطي مع هذه المشكلات. وعندما تحتك بالشخصيات النكدية التي لا تنقطع على التذمر وتجد نفسك من دون قصد تبتعد عنها تدريجيا تدرك أهمية أن يتعامل الشخص بإيجابية مع كل ظرف ومع المقربين منه.

نقلا عن العرب