تحول النزوح الى فكرة تراود العراقيين بإلحاح في ظل غياب الأمن، وتزايد المخاطر وتنوعها، ففيما يحاول بعضهم أن يجد له ملاذاً آمناً في الداخل أو الخارج، هرباً من قصف الطائرات والبراميل المتفجرة، التي تستهدف بشكل عشوائي الأحياء السكنية والمدنيين، في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية، تسيطر على آخرين رغبة في الخروج من الواقع الذي بات يرسم حدوداً جديدة، ومراكز نفوذ تفرض هيمنتها بقوة السلاح، لذا تجدهم يتطلعون الى الحصول على لجوء في إحدى الدول عن طريق الأمم المتحدة، لتأمين حياة مستقرة ، وينجون بأنفسهم من حالة الفوضى التي تسود العراق.
ومن هنا يتضح أن جهات عديدة متورطة في عملية النزوح، والهجرة، ولو قدر لباحث أن يجري إحصاءً في هذا الصدد، لوجد أكثر من صورة لشكل وطبيعة النازحين، فمنهم من أجبرته السياسات الحكومية على النزوح، ومنهم من كان ضحية الميليشيات التي حركت هواجس الخوف عنده وجعلته أمام خيار وحيد هو الهجرة، فيما يطرح آخرون منهجية الأجهزة الأمنية التي كانت تتحرك على وفق بعد طائفي في إستهداف مكونات معينة لخلق بيئات جديدة، إعتماداً على تخطيط مسبق لتغيير ديموغرافية المناطق والأحياء السكنية، في حين يبرز نوع آخر من الدفع بإتجاه النزوح، يستهدف الأقليات العرقية
والأثنية، أضفاه منطق القوة الذي أخذ يتصاعد طردياً مع حالة الإنهيار المؤسسي للدولة العراقية.
إذاً، هناك أكثر من طرف يسهم في توجيه المكونات المجتمعية الى الهجرة، لذا من غير المستغرب أن يجمع مخيم واحد لللاجئين فئات مختلفة عرقياً وأثنياً، لكن يجمعها هدف واحد هو طلب الأمان.
ومن خلال هذا الفهم لظاهرة النزوح، يبدو أن الإكتفاء بتوفير مآوي بديلة، سواء أكانت من الخيم أو المدارس او المباني المهجورة، والعمل على تحشيد الجهد الدولي لتقديم المساعدات الإنسانية، الى جانب رصد مبالغ مادية للنازحين، غير مجد بالمرة، ولاسيما مع إستمرار الظروف الدافعة نحو النزوح، والتي باتت تشكل عبئاً على مستقبليهم داخلياً وخارجياً.
وعليه ، أصبح لزاماً أن نحدد بشكل دقيق المسؤولين عن تهجير المواطنين، من دون مواربة لجهة على حساب جهة أخرى، ولانبكي أو نتباكى على مهجر هنا لتحقيق غرض دعائي رخيص، فيما نغمض العين عن مهجر هناك، بسبب وجود مبرر آخر لهجرته لاينسجم مع منهجية التوجه العام.
لسنا إزاء سباق لتبادل التهم، وإنما لحصر المشكلة التي أخذت بالتوسع، وسط غياب الحلول، السياسية، والعسكرية والأمنية، بل وحتى الإقتصادية، وقطع الطريق أمام محاولات بعض أطراف المشكلة في إستغلال عملية التهجير لأغراض سياسية بحتة، أو طائفية في بعض الأحيان.
ومن الغرائب، أن ينبرى من يمارس التهجير في مناطق نفوذه، للدفاع عن مهجرين آخرين، ويفتح منافذه لهم، مع إختلاف البيئات والبنية المجتمعية، والثقافة التقليدية، والعرف العام، مايكشف حقيقة وجود صراع من نوع آخر يعتمد على إستهداف الهويات، أكثر منه الرغبة في مد أواصر المحبة والحفاظ على اللحمة الوطنية، بدليل أن واقع مغاير في مكان آخر جرى التعامل معه بطريقة غير إنسانية بالمرة.
وكنا نتمنى، لو شرعت الحكومة، بإعلان هدنة خلال العيد، ومنحت فرصة لموطني “المناطق الساخنة” بحسب تعبيرها، لكي يتعايدوا من دون خوف من قصف صاروخي أو برميل متفجر من الجو، أو قنبلة مدفع أو هاون، كما كنا نتمنى لو أقدمت على خطوات لتحقيق المصالحة الوطنية، وإن كانت في وقتها الضائع، لتسجل موقفاً يحسب لها، بعيداً عن أساليب التهديد والوعيد الذي إتبعته خلال السنوات الماضية والى الآن، لكن لغة لاصوت يعلو فوق صوت المعركة يبدو أنه هو السائد دائماً، من دون إكتراث بشهر رمضان أوعيد الفطر المبارك.
لاشك أن هناك حرب تدور رحاها منذ شهور، لكن لايعني أن يصبح القتال هو الخيار الوحيد، وتحشيد كل الإمكانيات البشرية والعتاد والعدة لخوض معارك طاحنة داخل المدن، ضحاياها في الغالب هم المدنيون.
إن واقع النازحين يدعو الى ضرورة البحث عن حلول سلمية للأزمة الراهنة، من دون الإتكاء على حلول آنية، تبدأ من نهاية الأزمة وليس من بدايتها.