الموصل ملأى بالأنبياء وبالقديسين، لكن واحداً منهم كان الأكثر شهرة، وقد طوبته الأديان الثلاثة، فالنبي يونس حضي بمحبة اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء، لأن تجربته في الخروج من بطن الحوت كانت تتطلب معجزة كبرى. إن القديس الذي نجا من الغرق، ومن الظلمات الثلاث (ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل)، ونجا من العصارات الهضمية التي كادت تمضغ لحمه الحي، فأنبت ألله على جسده ثمرة اليقطين، ولذلك فاليقطين مقدس هو الآخر. وحين خرج من هذه التجارب اغتالته عصابات (داعش). ثانية تقضم أنياب الوحوش أجساد الأنبياء، وفي هذه المرة يبدو أن الدعاء لم يعد مؤثراً، ولا الدموع المسكوبة على أعتاب الجوامع، ولا التوسلات. مقاتلو داعش لن يمكنون الأنبياء من الخروج الآمن إلا بعد أن يدفعوا الجزية أو يتطوعوا في التنظيم، أو هو الذبح، ولنا أن نتخيل رقاب الأنبياء وهي تسقط بفعل السكاكين. يونس، يونان، ذو النون، جميعها أسماء يحملها آلاف الموصليين، وهي كالرقيا من الموت والحسد عند النساء الخائفات على أولادهن، والآن قد انقطعت الصلة بين القديس وأبناء مدينته العاصية بفعل دنيء. لقد رشق الموصليون عربات الجيش العراقي بالحجارة غضباً من السيطرات والحواجز الكونكريتية، ولم يحتملوا أسئلة الجنود، لكنهم صمتوا كالقبور أمام القتل والتهجير والجلد وختان النساء، فأي كلمات يمكنها أن تجمل الفجيعة والصمت المطبق الذي يليها؟ بعض المثقفين من أنفسنا السنة كان حالهم بعد أن صدموا بثوارهم كحال الحملان التي يعتريها الصمت حينما تفترسها الذئاب، أما البعض الآخر فكان يبرر للقتلة فعل القتل حتى تساوى عندهم الفعل ورد الفعل، فالجلاد كما الضحية، والقاتل كما المقتول، بعضهم قال بخجل (المهم هو الحفاظ على ما تبقى)، وقالت مثقفة أخرى (يجب أن لا نأسف على أضرحة ومراقد لأساطير قديمة)، وفي ردها على من طلب رأيها بما يحدث من جرائم تفجير مراقد الأنبياء يونس وشيت وجرجيس، قالت ناشطة مدنية (قال ألله: إن المساجد لله فلا تدعون مع ألله أحدا. وقال رسول ألله محمد ص: لا تجعلوا قبري وثناً يعبد، فما أشد غضب ألله على قوم اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد. فهل لي رأي يا أخي أفضل من رأي الله ونبيه، ولماذا تريدني أن أعيب المخلوق – تقصد تنتقد داعش- وهي وصية الخالق ونبيه؟)، وقد فاتها أن المسجد النبوي في المدينة المنورة يضم قبر الرسول محمد وخليفتيه أبو بكر وعمر. إن الأكاذيب التي يرددها مثقفون وإعلاميون وقنوات فضائية ومواقع الكترونية وصفحات تواصل اجتماعي، هي بمجملها تناص سيء للأكاذيب ذاتها التي كان يرددها حارث الضاري وقناة الرافدين طيلة السنوات الثماني الماضية عن براءة القاعدة من تفجير ضريح الإمامين العسكريين في مدينة سامراء، والتي نجم عن هذا التفجير حرب أهلية طائفية بين أبناء الشعب العراقي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء. ومثلما كان حارث الضاري المحرض الأول لعمليات التهجير من مدينة (أبو غريب) والمناطق المحيطة بها، فإن فكراً واحداً أو رجلاً واحداً هو (إبراهيم البدري) وراء الجريمتين اللتين حدثتا في سامراء في العام 2006 وفي الموصل عام 2014. إن بعض المثقفين الذين صدمتهم الأفعال المشينة (لثوار العشائر) وهو الاسم الحركي (لداعش) حينما تسيطر على المدن، أو (المسلحين) وهو الاسم البديل لهم حينما يقومون بفعل إجرامي، وهؤلاء من أولئك، إذ لا فرق بين من يقتل المسيحي أو الشبكي أو الشيعي، أو يهجرهم، أو يسرق بيوتهم بشعارات دينية، وبين من يقتل الجنود ويحرق أجسادهم مع صرخات التكبير، وهم من أديان وطوائف مختلفة، وقد اختلطت في عمليات الدفاع عن المدن ضد عصابات (داعش) الإرهابية، دماء زكية سنية وشيعية، وهنا فقط يسكت المثقفون، ويدفنون رؤوسهم في الوحل.