تكمن أهمية الشعر “الجاهلي” في كونه الأساس الذي بُني عليه ديوان العرب لمختلف العصور اللاحقة، وساهم مساهمة فعّالة في ترسيخ الذائقة الشعرية للشعراء، وكان ومازال منهلاٍ وملهماً لهم بفضل ما احتواه من ثروة لغوية وبلاغية وصور شعرية ومعانٍ وأغراض؛ ناهيك من كونه قد رسَّخ الصوت الموسيقي للشعر العربي والذي سيكتشف قوانينه عبقري البصرة (1)الخليل بن أحمد الفراهيدي(100-170ه/718-786م) في علم دقيق ومحكم هو العروض الذي ضم بين دفتيه بحور الشعر، وعلم القافية..
والشعر “الجاهلي” وبتعبير أدق شعر ما قبل الإسلام بمضمونه وشكله المحافظين لا ينتهي مع بزوغ الرسالة المحمدية بل يمتد الى نهاية الحقبة الأموية، حيث بقيت أغراض الشعر هي نفسها وكذلك معانيه والفاظه وصوره، وشكل القصيدة الطويلة التي تعتمد البحور الطويلة والأسلوب الخطابي ذا النبرة الصوتية العالية، بقي هو الآخرُ نفسُه سوى تغيير طفيف. وزد على ذلك أن كبار الشعراء الجاهليين يتكررون وكأني بهم يُستنسَخون في العصر الأموي؛ فهذا أبو عمرو بن العلاء البصري(68أو 70-154ه) وهو الأدرى بالشعر وبواطنه “يُشبِّه جريراً بالأعشى والفرزدق بزهير والاخطل بالنابغة”(2).
ومن الملفت للباحث الدقيق أن التجديد الذي طرأ على الشعر طيلة الفترة المذكورة من مسيرة الشعر -التي امتدت قرنين ونيف حتى نهاية العصر الأموي- قد حصل في فترة ما قبل الإسلام متمثلا بشعر الصعاليك وبعظام شعرائهم الذين سُمِيوا بالشعراء الصعاليك وارتضوا التسمية رغم مدلولها اللغوي السَّلبي! فالصُّعلوك في المعاجم (3)هو الذي لا مال له و زاد الأزهري ولا اعتماد، والمقصود بالأخيرة هذه: لا مورد رزق له. بيد أن الصعلكة تجاوزت إطارها اللغوي الى الإجتماعي، فهم مجموعة من العرب ذاع منهم شعرا من قبائل مختلفة خرجوا على سلطة القبيلة وتمردوا على قيمها ومنهم من خلعتهم القبيلة؛ ومجموعة الخلعاء ومنهم أولاد الحبشيات ممن لم يلحقهم آباؤهم بأنسابهم، ومنهم من احترفوا الصعلكة احترافا وجعلوها وسيلة لمساعدة الضعفاء والمعدمين.(4)
وكانت وسيلة العيش لدى هؤلاء هي قطع الطرق على القوافل التجارية وسلب الأغنياء الشحاح، وبعضهم يوزع ما يغنم على غيره، ومن المعاني السامية أيضا لدى الصعاليك هو أنهم لا يستهدفون الشرفاء الموسرين أو كرام الناس! وقد توزعت أخبار هؤلاء الشعراء ومتفرقات أشعارهم في كتب الشعر ورواته مثل الاصمعي والأصبهاني وابن سلام وابن قتيبة والبغدادي…وحيث أن النظرة إلى هؤلاء ظلت محكومة بالازدراء والتعالي الى
أن اهتم بهم المستشرقون(أمثال بروكلمان وريد هوس) وتولوا جمع أشعارهم وطبعها بل يجد المتتبع أن ما ورد ذكرهم في الموسوعة البريطانية أغنى وأعمق مما في الموسوعة العربية!
والسؤال الأهم: ماهي معالم ودلالات التجديد لدى الشعراء الصعاليك؟
وحيث تمرد هؤلاء على القيم العشائرية فإنهم أصبحوا في حلّ من أن يكونوا لسانا إعلاميا للقبيلة، وحيث أن عيشهم في الصحارى والوهاد فإنهم مجدوا الصحراء والاستئناس بوحوشها كقول الأحيمر السعدي(الطويل):
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى***وصوّتَ إنسانٌ فكدت أطيرُ
لهذا فلا يلمسُ المتمعن وقوفاً على الأطلال في أشعارهم(5) ذلك الوقوف الذي ارتبط بالشعر التقليدي الجاهلي، واستُهلت به عيون اشعارهم. وحيث كان الصعاليك عدائين وبولغ بعدوهم فلا تجد أثرا لوصف الناقة أو الحصان! كما أنفوا المديح والتكسب باشعارهم فكانوا على صعلكتهم بهم انفة وتعفف وقد عبّر عن ذلك بكر بن النطاح خير تعبير (الطويل)(6):
ومن يفتقر منّا يعش بحسامه***ومن يفتقر من سائر الناس يسأمِ
***
أشهر الشعراء الصعاليك طراً هو عروةُ بنُ الوردِ بنِ زيد العبسي (ت30ق.ه/594م) الملقب بعروة الصعاليك، وهو فارس شجاع وصعلوك جواد فهو أبو الصعاليك، كان يغزو ويقطع الطرق ويُطعم الفقراء، وكان يجمع الصعاليك ويرعى ضعافهم حتي إذا قدروا على الغزو دعاهم لذلك وأشركهم في المغانم، والملفت أن عروة رفيع النسب ولم يكن ابن حبشية او خليعا، لقد اختار حياة الصعلكة اختياراً، ووقف مع المهمشين في المجتمع ولعل في هذا حالة نادرة تدل على النبل في مجتمع الفقر والعَوْز، وقيل أنه لقب بعروة الصعاليك لقوله (الطويل):
لحى الله صُعلوكا إذا جن ليله***مصافي المشاش آلفاً كلّ مجزر
يعِدُّ الغِنى من دهره كلّ ليلةٍ***أصاب قِراها من صديق مُيسَّرِ
ولله صُعلوكٌ صفيحة وجهه***كضوءِ شهاب القابسِ المُتَنوِّرِ
مصافي المشاش:كريم النفس؛ المجزر: موضع الجزر(الذبح)
ولعل أشهر أبيات لعروة هي تلك الأبيات التي عبّر فيها عن فلسفته الإنسانية في التصعلك، والتي استوقفت المستشرقين والباحثين(7) التي عدّوها دليلا على النحو الاشتراكي عند الصعاليك من أمثال عروة والشنفرى وغيرهما. وفي الأبيات يلمس الإنسان مبدأ التكافل الاجتماعي المنبثق من مجتمع شبه بدائي وطبيعة صحراوية قاسية لاتكاد تجود بشيء، وهذا ينسجم مع مبدأ مكدونالد في تواد الجماعات في ظل الأخطار المحدقة، كما كشفت دراسات الآنسة مرغريت ميد عن وجود هذا التكافل في المجتماعات البدائية بما ينسجم مع ما ذهبت اليه الدراسات الماركسية ولا سيما كتاب انجلز “أصل العائلة والملكية الخاصة”، والتي دحظت كثيراً من نظريات علم الاجتماع البرجوازي الذي بنى منطلقاته من المجتمعات الغربية فقط في ظل صعود البرجوازية! وعودة الى أبيات عروة (الطويل):
وإني امرؤٌ عافي إنائي شِركة***وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحدُ
أتهزأُ مني إن سمِنتَ وأن ترى***بوجهي شُحوبَ الحقِ والحقُ جاهِدُ
أفرِّقُ جسمي في جُسومِ كثيرةِ***وأحسو قَراحَ الماءِ والماءُ بارِدُ
أما الشاعر ثابت بن أوس الأزدي(ت525م/ 70ق.ه)، ولقبه الشَّنفَرى ويعني الغليظ الشفتين، فقد قتل والده ولم يتحرك بنو أزد لأخذ الثار فأخذت زوجته ابنها (الشنفرى) الى أهلها بني الدوس، وعندما كبر أسره قومه بنو أزد ورباه أحدهم فأعجب بشجاعته وشعره، وقد قال له لولا أنني اخشى ان اقتل لزوجتك ابنتي، فتعهد له إن زوجه ابنته فسيثأر بقتل مائة شخص، ومن هنا بدأ مسلسل الثارات وفي الروايات كثير من التضارب والتخليط!(8) بيد أن المرجح أنه حاول تقبيل البنت المشار اليها بالزواج فلطمته فقال (الطويل):
ألا ليت شعري والتلهفُ ضِلة***بما ضربت كف الفتاة هجينها
ولو علمت قعسوسُ أنساب والدي***ووالدها ظلت تقاصر دونها
أنا ابن خيار (الحجر) بيتا ومنصبا***وأمي ابنة الاحرار لو تعلمينها
ولي وقفة مع هذه الابيات الثلاثة، وحيث أن الصعاليك منقطعو الجذور، أو خلعاء فلا مبرر للفخر بالأنساب، لذا فإن هذه الابيات تخالف مبادىء الصعلكة، وأن الشنفرى لم يكن له مستقر عائلي فالجزء الاول من حياة الطفولة والصبا عند أخواله بني دوس ثم التحق مأسوراً عند بني سلامان الأزديين قوم أبيه، وأجد أن هذه الابيات موضوعة ضمن الكثير
مما تضارب به الرواة من مبالغة وسد النقص في حبكة الأخبار! ويلاحظ أن هناك إكفاء في قافية البيت الثاني وهو ضرب من الإقواء وهو نقصان حرف من فاصلة القافية، كما هو واضح في: دونها (الناقصة) قياساً على: هجينها، و تعلمينها(9).
لقد رافقت شخصية الشنفرى كذلك كثير من المبالغات في سرعة عدوه ادرجة أن الخيل لا تُدركه حتى قيل:”أعدى من الشنفرى” وقد عاش الشنفرى وحيدا حتى ظفر به أعداؤه فقتلوه سنة 70 ق.ه وفق روايات مختلفة في مماته وفي حياته! ولعل اعظم ما نسب للشنفرى من شعر هي لا ميته التي عرفت بلامية العرب، لأنها أروع ما نظمته العرب على اللام قافيةً، والتي تعَد من عُيون الشعر العربي عموما ومن أبدع ما جاء به شعر الشعراء الصعاليك لما بها من حسن التوصيف وروعة المخيلة وما فيها من مشاعر صادقة لنفسية الصعاليك.وللمستشرق الانكليزي ريد هوس (ت1892) رسالة بالأنكليزية ترجم فيها لامية الشنفرى وعلق عليها شرحا وتوضيحا. وهذا مستهل اللامية(الطويل):
أقيموأ بني أمي صُدورَ مَطيِّكُم ***فإني الى قوْمٍ سواكُم لأميَلُ
فقد حُمَّت الحاجاتُ والليلُ مُقمِرٌ***وشُدت لِطِيّأتٍمَطايا وأرحُلُ
وفي الارض منأىً للكريمِ عن الأذى***وفيها لمن خاف القِلى مُتَعَزَّلُ(10)
الهوامش:
1. المخزومي،د. مهدي؛ عبقري من البصرة، دار الشؤون الثقافية، بغداد ط2-1989.
2. الأصبهاني، ابو الفرج؛ الأغاني،8/5 دار الكتب-القاهرة.
3. ابن منظور، لسان العرب: جذر صعلك، ج8 دار صادر بيروت، وكذلك الزبيدي، تاج العروس، وكذلك المعجم الوسيط.
4. وردت اخبار الصعاليك واشعارهم متفرقة في كتب الاصبهاني والاصمعي، وأبي علي القالي، وابن قتيبة… ومن الكتب الحديثة ماورد في تاريخ الأدب العربي للمستشرق،كارل بروكلمان ترجمة الاستاذ النجار، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي، والشعر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف، والكتاب القيم الشعراء الصعاليك للدكتور يوسف خليف، دار المعارف ط2-
1966، وكتاب شعر الصعاليك للدكتور عبد الحليم حفني؛ الهيئة المصرية للكتاب1987 القاهرة.
5. قارن مع سخرية أبي نواس من الوقوف على الاطلال (الرمل):قل لمن ظل على رسم درس-واقفا ما ضَرّ لوكان جلَس؟!
6. د. حفني لا حظ هامش4.
7. خليف،د.يوسف، مقدمة الطبعة الأولى لكتابه الشعراء الصعاليك.
8. أضافة الى كتب الشعراء واخبارهم التي ذكرناها ، تاتي روايات الشنفرى في كتاب هام: أسماء المغتالين من الاشراف في الجاهلية والإسلام وأسماء من قتل من الشعراء لمحمد بن حبيب (ت245ه)
9. ابن قتيبة، أبو محمد؛ الشعر والشعراء،ص14.
10.حفني، د. عبد الحليم؛لا مية العرب شرح ودراسة، مكتبة الآداب، ط1، 2008 القاهرة.