ربما لم ولن يخطر على بال الدكتورة وردية اسكندر, بطلة رواية (طشاري) للروائية أنعام كجه جي, أن مشاعرها بالهروب من العراق سيعيشها عشرات الآلاف من المسيحيين وهم يهجرون ظلما ً من بلدهم الذي عاشوا فيه آلاف السنين. ربما كل مسيحي مهجر الآن يحمل نفس مشاعر الدكتورة وردية وهي التي لم تحس في يوم من الأيام بأنها غريبة في البلد الذي ولدت وعاشت ولم تمت فيه, في أقصى شماله أو حتى في (درابين) الديوانية وهي تلبس العبائة العراقية السوداء تعالج المريضات وتولدهن في ظروف قاسية. ربما يحمل نفس المشاعر أيضا ً, مشاعر الخروج الأخير, كل من اليهود في منتصف القرن الفائت والأكراد والأكراد الفيلية وأجيال كثيرة ولدت في هذا البلد ولم تعد اليه. يلتحفون السماء وينامون على الأرض كما عشناها كهاربين من الظلم في حدائق روما نغتسل في حمامات الكنائس وكما فعلها صموئيل شمعون في روايته عراقي في باريس بما تحمل تلك الرواية من سخرية القدر وسخرية الكاتب من أنفه الكبير هوية أغلب العراقيين. الشعور بالغربة شعور قاس لكن الأقسى منه مشاعر اللاعودة, نعم, اللاعودة هي نهاية المستقيم حيث لادوائر تلتف على القدر فتعيدنا مرة أخرى بعد لنفس النقطة, أقسى حتى من رحلة فضائية بلا عودة للمريخ, فرحلة المريخ اختيارية أما الهجرة والتهجير فهو قسري كما تقتلع الشجرة من جذورها بلاسابق إنذار.
هل المجتمع العراقي طارد للأقليات؟ سؤال يراودني ماعشت وما شهدت الهجرات الجماعية التي لم تتوقف وربما لن تتوقف. فمنذ تكوين الدولة العراقية الحديثة وحتى قبلها كانت الكيانات الاجتماعية في العراق, وتحديدا ً الكيانات التي تعيش في المدن, تتعرض لغزو الصحراء هجمة بعد هجمة وهجرة بعد هجرة. فهجمات القبائل الصحراوية, تلك التي تحمل الفكر الوهابي منفكت بتوالي الهجمات على حاضرتي النجف وكربلاء بشكل متككر فتخلف ورائها مذابح بلارحمة ولاوازع أخلاقي. لقد توقفت تلك الهجمات بشكل تدريجي بعد تكوين الدولة بشكل رسمي ونيل الاستقلال, لكن الفكر الصحراوي مازال ينمو وينمو في عقول الحضريين هذه المرة. الفكر الصحراوي الذي لايؤمن بأنصاف الحلول فهو متطرف يمينا ً أو شمالاً, لايهادن, إقصائي الطبع جاف الملامح كجفاف وجوه أهل الصحراء, أحادي التوجه يكره التنوع والتعدد والإختلاف, سطحي لايفسح فرصة للتفكير بل الفعل ديدنه مهما كانت العواقب, تحركه روح الرمال المتحركة وهجيرها لتسلب منه روح الحضارة وكل قيمة إنسانية لتبدو عارية أمام أي منظومة أخلاقية فيحاول الإنتقام منها شر إنتقام بوحشية وفي أول فرصة تتاح له. يحمل كل تناقضات الكون في تجلياته ويجنح لأقصى الرومانسية في خياله بعيدا ً عن كل تفكير واقعي, فهو إختزالي وتعميمي في نفس الوقت إذ لاتوجد هناك فرصة للتحليل والتأمل وتفكيك الأشياء لفهمها بطريقة أسهل.
أن من الواضح أن تلك العقلية تجذرت وازدهرت في الروح القومية والأيدلوجية الشوفينية, وليس بعيدا ً عن التاريخ, عندما زاوج بني أمية بين كل ماهو عربي مع كل ماهو إسلامي, أما اليوم فقد عاد مرة أخرى بعقلية حزب البعث لنرى عزة الدوري يقود حملة إيمانية ويترأس فصيلا ً مسلحا ً نقشبنديا ً بعد أن كان حزب البعث الد أعداء الدين حينما كان ميشيل عفلق يقول لو تدخل الدين في السياسة سنضربه بيد من حديد. إلا أن الحق أن الأيدلوجية القومية الشوفينية تسلحت بالدين هذه المرة لتضفي قدسية على أفعالها ووجدت ظالتها بدين الصحراء الذي تفجر وجوده بتفجر ينابيع البترول والأموال المستحصلة منه والذي
جعل منها بضاعة رائجة. تزاوج عجيب بين كل ماهو قومي شوفيني وماهو ديني تكفيري متطرف وماهو مصلحي مرتبط بسلعة النفط ليكون مزيجا ً حديديا ً ظهرت فاعليته هذه المرة ليست بالغزوات على المدن ولكن بالمؤامرات والانقلابات. لقد طغى ذلك الثالوث على فكر المدينة بعدما جلبه السياسيون الريفيون الذين رضعوه من اثداء أمهاتهم الآئي لم يألفن فضائل المدينة.
من هنا بدأ تهجير اليهود والايستيلاء على ممتلكاتهم ثم الأكراد والأكراد الفيلية الذين بعثروا في مخيمات على الحدود الإيرانية ولم ولن ينتهي هذا المسلسل بالشبك والتركمان الشيعة التلعفريين ولابالمسيحيين وهم يسلبون من أعز ممتلكاتهم ولانعرف من القادم الصابئة أم الإيزيديين أم من. إلا أن الحق يقال أن هجمة اليوم لم تأت من الصحراء بل من الشمال هذه المرة مع داعش ومن تحالف معها من الصحراويين مدعي الثورة. ولداعش الفضل بأن جعلتنا نعيد إستنطاق معنى الكثير من المصطلحات كالثورة والخلافة والفتوحات وأسلم تسلم لنعيد صياغتها بعدما أعطونا واقع حي عن مصاديق تلك المفاهيم وكنا قبل نقرئها في بطون الكتب فقط.
أن الهجمة من الشمال تنذر بشر كبير ليس لقوتها فهي ليست بتلك القدرة لكن تمددها جاء بسبب الفشل بإدارة الدولة الحديثة وتلاشي الروح الوطنية التي منفك الساسة ومثقفي السلطة والمتدينين المتعبين من قضمها بضيق أفقهم. لكن اللافت في الأمر هذه المرة أن الفكر الصحراوي ابتلع المدينة بشكل كامل ليقدمها كنموذج للتخلف من خلال رفض التنوع والتعدد, بالإقصاء والتحجر الذي طغى على كل ماهو جميل ومرن ليحول قطعة الموزائيك الملونة إلى كتلة كونكريتية تخلو من كل لون وليس فيها مسامات. فبعد أن كان هناك صراع في المدينة بين الحضارة والبداوة كما يراه علي الوردي نشاهد اليوم تراجع كل قيمة حضارية أخلاقية أم فكر وحشي همجي إذ لايكتفي بالقتل بل يتفنن به ويستمتع بمشاهدته ليغذي روح الإنتقام فيه من كل مايحمل من قيمة فنية أو تاريخية أو قيمية. أن فكر الصحراء متجذر في عقولنا عندما نرفض الآخر المختلف عنا وأن كنا نلبس أربطة العنق ونصبغ أحذيتنا, لقد تمكن فكر الصحراء منا للحد الذي جعلنا نقتل ونهجر بعضنا بأسم الطائفية والقومية والدين لنصبح كلنا داعشيون وأن لم نقبل, إبتدائا ً من سياسيينا الذين لم يستنكروا تهجير المسيحيين إلى شيوخ ديننا الذين يرقصون على دماء ضحايا الطائفية إلى شيوخ عشائرنا الذين تحالفوا مع الشيطان بأسم الثورة إلى مثقفينا الذين تركوا أقلامهم وتخندقوا وليس إنتهائا ً بصغارنا الذين تجندوا ليتحولوا لدواعش أو ميليشيات وماهم إلا وقود لحرب يشتعل سعيرها تأكل الأخضر واليابس.
أيها الأقلي المهجر قسرا ً
أرفع صليبك على ظهرك وأرحل
فالدرب طويل, والحمل ثقيل
أن سياط الجهل لن ترحمك
لا, ولا ريح الهجير من الصحراء
أرحل بعيدا ً واحمل حزنك الأزلي معك
عبئه في قناني المياه وعلب الكوكاكولا
لتشربه الأجيال في زمن الغربة
جيل بعد جيل