18 نوفمبر، 2024 4:37 ص
Search
Close this search box.

في ألقابِ الشعراءِ والأدباء …استطراد ودلالات-1

في ألقابِ الشعراءِ والأدباء …استطراد ودلالات-1

ما من أمة وَلِعت بالألقاب وَلوعَ العرب بها، أياً كانت دلالات هذه الألقاب ذمّاً أو مدحاً، وقد تفشى التَّلقيب عند عرب قبل الإسلام حيث كانت العصبيةُ القبلية مَدعاةَ تمجيد للذات أو النَّسَب وهو ما عُرِف بالفخر كبابٍ من أبواب الشعر أو ذماً للآخر في ذاته أو نَسَبِه كبابٍ من أبواب الشعر وهو ما عرِف بالهجاء! ومعروف لكل من ألمّ بالشعر “الجاهلي” قصةُ بني أنف الناقة وما عانوه من وَضاعة اللقب حتى تهيأ لهم الشاعرُ جرولُ بن أوس بن مالك العبسي الملقَّب بالحُطَيئة (600-678م/60ه) ليرفعَ مُقامَهم ويُصبحوا من عِلية القوم بقصيدته الذائعة(1) التي غدت مدعاةَ فخرهم إذ جاء فيها (البسيط):

سيري أُمامَ فإن الأكثرين حصىً***والأكرمين إذا ما يَنسَبون أبا

قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهمُ***ومَن يُسَوِّي بأنفِ الناقةِ الذّنَبا

أما التلقيبُ أو نبزُ الآخر بالدِّين أو النِحلة فكان نادراً لأن مجتمع ما قبل الإسلام لم يكن مجتمعا متدينا وبذلك لا توجد ظاهرة التعصب الديني ولا الحروب الدينية(2)، إنما كان التلقيب في هذا العصر يرجع لأسباب خَلْقية أو حدث معين ارتبط به صاحب اللقب فشاعرنا سابق الذكر جاء لقبُه “الحطيئة” لقِصره الشديد على الأغلب في حين روى حماد الراوية (95-155ه) عن أبي نصر الاعرابي: سُمِّيَ الحطيئة لأنه ض.. (أطلق رِيحاً/خ) فقيل له ما هذا؟ فقال: إنما هي حُطَيْئَة(3).

ومن حطيئة الحطيئة الى أخرى تُشبهُها من حيث الحدث وتختلف عنها من حيث فلسفة الحدث ودلالته وبطله، وأعني به الفارسَ المِغوارَ الشاعرَ ظالمَ بن عمرو بن سفيانِ الدُّؤَلي، المعروف بكنيته أبو الأسود الدؤلي (16ق.ه-69ه)، ولقبه ملِكُ النَّحْو، فهو مؤسس علم النحو، وواضع التشكيل على أحرف المِصحف والتنقيط على الأحرف العربية (وليس الحجاج كما يزعم مزورو التاريخ)، ولاّه عليٌ على البصرة وشهد معه واقعات صِفّين والجمل ومحاربة الخوارج(4)، وروى أبو بكر الهذلي ما ملخصه “أن أبا الأسود أحدث ريحاً بحضور معاوية

فاستكتمه ووعده معاوية بالكِتمان، لكنه سرعان ما أخبر خليليه ابن العاص ومروان، فلما غدا أبو الأسود قال له ابنُ العاص: ما فعلَت ض..تك (فعلتك) بالأمس، قال: ذهبت كما يذهب الريحُ من شيخ ألانَ الدهرُ أعضاءه من إمساكها، وكل أجوف ..وط (فعول) وكيف نجاك دبرُك ياعمرو يوم صِفّين؛ ثم أقبل على معاوية وقال: إن امرءً ضعفت أمانته ومروته عن كتمان ض..ة (فعلة) فحقيق أن لايؤتمَن على المسلمين!!(5)

نحن إزاء هذه الرواية أمام أكثر من دلالالة، وأولها سرعة البديهه في الرد وحُسن التسديد في إصابة أكثرمن هدف ناهيك عن الشجاعة الكبيرة وهي شجاعة الفارس الدؤلي الذي هدّت قُواه أراذل العمر ولكنها لم تنل من ذكائه وشجاعته، أمام خليفة زائف محاط برجال لم يعرفوا الفروسية ولا أخلاقها! وإنما ساقتهم الطرق الخسيسة من مثل “إن لله جنوداً من عَسل” وما الى ذلك من أساليب يعرفها كل من ألمّ بالتاريخ ولو قليلا، وفي ذلك موعظةٌ لأولي الألباب! ومن حادثة الحطيئة والدؤلي يتعجب الإنسان لهذه المفارقة التي انفرد بها العرب دون سائر الأمم وهو اعتبار خروج الريح أمام الغير منقصة ما بعدها منقصة ومعارة ترافق مُحدثها طيلة عمره في حين يعتبر اطلاق الريح من الفم “التَّجَشُوء” أمرا عادياً حتى وإن كان أمام الآخرين على مائدة الطعام بل يُبارَك المحدث في هذا الأمر على فعلته متمنين له العافية رغم ما بها من قُبْح!

أما الشاعرة تُماضر بنت عمرو بن الحارث الرياحية السُلمية (575-664م) فقد لقَّبها الرسول محمد بالخنساء لِخَنس مُحَبَّب في أنفها! بينما خاطبها الشاعر الفارس دُريد بن الصّمة (قتل في 8ه في واقعة حنين) بخناس حين يقول (الكامل):

حيوا تُماضر وأربعوا صَحبي***وقفوا فإن وقوفكم حَسبي

أخناسُ قد هام الفؤادُ بكم *** وأصابه تَبلٌ منَ الحُبِّ….إلخ

ويروي محمد بن سلاّم الجُمَحي (139-232ه) صاحب طبقات فحول الشعراء(6) أن الشاعر قيْدَ الذكر قد خطب الشاعرة فبعثت خادماً لها الى دريد

وقالت: انظري إليه إذا بال، فإن كان بولُه يخرق الأرض ويخِدُّ فيها ففيه بقية، وإن كان بوله يسبح على وجهها فلا بقيَّةَ فيه، فرجَعت إليها وأخبرتها، فقالت: لا بقيّة في هذا، فأرسلت إليه: ماكنت أدَعُ بني عمي وهم مثل عوالي الرماح وأتزوج شيخاً! فقال (الوافر):

وقالت إنني شيخٌ كبيرٌ *** وما نبّأتُها إني ابنُ أمسي

فلا تلدي ولا ينكحْك مثلي*** إذا ما ليلةٌ طَرَقت بنحسِ

تريدُ شُرَنبث القدمين شَثناً***يباشِرُ بالعشية كلَّ كرسي

الشرنبث : القبيح، الشديد؛ شثن القدمين: غليظهما*

والذي يهمنا هنا الدلالة، وهو أن الشاعرة الخنساء قبل نحو من 1450 عاماً قد ملكت زمام نفسها وعبرت عن اختيارها وعن أحاسيسها ورغبتها في رجل قوي يلبي حاجاتها العاطفية والجنسية، رغم أن الخاطب الشاعر الفارس كان صديقا لأخيها معاوية الذي حاول مع أبيه إقناعها دون طائل، واختارت من يليق بها زوجاً.. ومن الملفت أنها اختبرت دريدا فأحسنت الاختبار بما هو متاح لها وهو قوة اندفاع البول من الأحليل، والحقيقة إن هذا الاختبار له مسوِّغه العلمي فمع تقدم العمر ينكمش المجرى البولي ويضيق، أما إذا رافق ذلك التهابٌ أو تَضَخُّم في المُوثة (البروستات) المعروف علمياً BHP سيؤدي الى ضيق في المجرى وينزل عندها البول خيطا رقيقا ومتقطعا أحيانا! ولا نريد الاستغراق بالسجال الشعري الذي دار بينهما، فالرواية متوفرة في مصادر المرويات وأخبار الشعراء(7).

ومن الألقاب الشعراء في عصر قبل الإسلام الشاعر الأعشى، والنابغة الذبياني والملك الضليل، وهؤلاء الثلاثة هم من فحول الطبقة الأولى من الشعراء عند ابن سلام، الذي اعتبر رابعهم زهير بن أبي سلمى (8)، وكذلك فعل الخطيب التبريزي(9). أما الأعشى (570-629م/7ه) فهوميمون بن قيس بن جندل لُقّب بالأعشى لضعف بصره، والأعشى على وجه الدقة هو الذي لا يرى ليلاً، ويلقب أيضا ب”أعشى قيس” لتفريقه عن شاعرين أعشيين آخرين جاءا بعده، وقد

اشتُهِر بلقب “صنّاجة العرب” وقد اختُلِف فيه، فهو أول من ذكر الصّنج في شعره حين قال (البسيط):

ومُستجيبٌ لصوت الصّنج تسمعُه ***إذا تُرجّعُ فيهِ القِينةُ الفُضَلُ

بينما يذهب أبو الفرج(10) الى أنه: غنّى في شعره فكانت العرب تسميه :صناجة العرب؛ وأرى غير هذا وذاك، فالأعشى رقيق عذب في جلّ أشعاره، حيث تخلو من النغمة الخطابية التي تغلب عليها القوة والجزالة اللفظية الصحراوية، فمن يتمعن بشعر الأعشى يحس بغِنى الموسيقى فيه حتى تبدو أيقاعاته كأنها ضرب الصنج بأنامل رقيقة! ومعلقته خير شاهد على ما أقول (البسيط):

ودّع هُريرةَ إنَّ الرَّكب مرتحِلُ *** وهل تُطيقُ وداعاً أيها الرجل؟

غرّاءُ فَرعاءُ مصقولٌ عَوارِضُها***تمشي الهُوَينا كما يمشي الوَجي الوَحِلُ

كأن مشيتَها من بيتِ جارتِها *** مَرّ السَّحابة لا ريْثٌ ولا عَجَلُ

إذا تقوم يضوعُ المِسكُ أصوِرَةً *** والزنبقُ الوردُ من أردانها شمِلُ

ما روضةٌ من رياض الحَزن مُعشبةٌ ***خضراءُ جادَ عليها مُسبِلٌ هَطِلُ

أرأيت معي كيف عزف هذا الشاعر فأجاد العزف وكيف صوّر هذا المصور فأحسن التصوير؟ أرأيت الأستفهام الإنكاري وضعه في عجز المطلع لا في الحشو؟ وفي دقة وصفه كأنك لا تحس بأنه في صحراء؛ وحتى مشيتها (هريرة)الثقيلة مشية الحافي الذي يمشي على أرض طينية لا مشية ناقة على أرض رملية!!

ويتكرر هذا المنهج التجزيئي الذي يبني على جزئيات متجاوزاً الكليّات؛ مع فحل آخر هو النابغةُ الذبياني (؟-18ق.ه/؟-605م) زياد بن معاوية… بن مُرّة بن ذبيان، (11) ولقبه اكتسبه من كونه نبغ متأخرا في الشعر دفعة واحدة كما يذكر القدماء من مؤرخي الأدب ونقدته، بيد أن ابن قتيبة* يزعم غير ذك وينفرد برأي مفادُه: أنه لقِب بالنابغة لقوله (الوافر):

وحلّت في بني القينِ بن جسرٍ***فقد نبغت لهم منّا شؤونُ

وهناك من يرى أن هذا اللقب مَجازٌ على حد قول: نبغت الحمامة إذا أرسلت صوتها في الغناء،،في حين يرى البغدادي(12): أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعرَ حتى أصبح رجلاً؛ وأرى أن هذا الرأي أقرب الى الصواب، فنبوغ الإنسان وفي مرحلة متأخرة، وفي الشعر دون غيره أمر ملفت يستحق صاحبُه لقباّ.

الهوامش:

1. طمّاس، حمدو؛ ديوان الحطيئة ص16، دار المعرفة/ بيروت 2005.

2. علي، د. جواد؛ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1 المقدمة.

3. القيرواني، ابن رشيق؛ العمدة في محاسن الشعر وآدابه، 1/11. راجع أيضاً طماس، حمدو؛ ديوان الحطيئة ، دار المعرفة/بيروت. وكذلك ديوان الحطيئة لابن السكّيت، قدم له د. حنا نصر الحتي،، ومعظم الروايات الواردة مروية عند الأصمعي، وأبي الفرج في أغانيه..

4. الدؤلي، أبو الأسود، حقق ديوانه كل من، الشيخ محمد حسين آل ياسين، والشيخ عبد الكريم الدجيلي، كل في كتاب. وينسب الى الدءلي البيت الذائع (الكامل): لاتنهَ عن خلق وتأتي مثله-عار عليك إذا فعلت عظيم.

5. جاء ذكر هذه الرواية في كثير من الكتب، عدا ديوان أبي الاسود وكذلك لدى الأصمعي وأبي الفرج مثل:ابن الأثير، الإصابة في معرفة الصحابة2/232؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء1/83-85؛ ابن النديم، الفهرست46؛ ابن خَلِّكان، وفيات الأعيان1/535. مرآة الجنان 1/206.

6. ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، وهو رائد مفهم الطبقة ومفهوم الفحولة في الشعر التي قسمها حسب قوة الشعرية وجعلة لكل طبقة ممثلين لها بأربعة شعراء. ثم تغير مفهوم الطبقات في السِيَر الى المفهوم التراتبي الزمني مثل طبقات الصحابة أو طبقات الشيعة…

7. طمّاس، حمدو؛ديوان الخنساء، دار المعرفة/بيروت ط2،2004، وكذلك راجع المصادر في الهامش5.

8. طمّاس، حمدو؛ ديوان زهير بن أبي سلمى، دار المعرفة/ بيروت ط2،2005، وشوقي ضيف، الشعر الجاهلي،دار المعارف/ القاهرة، عدة طبعات.

9. التبريزي الشيباني، الخطيب، شرح المعلقات العشر المذهبات، وهو كتاب أوسع وأشمل في شرح المعلقات من كتاب الزوزني.

10. أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، وكذلك راجع مصادر الشعراء الجاهليين، وتحقيق د. محمد محمد حسين لديوان الأعشى.

11. طمّاس، حمدو؛ ديوان النابغة الذبياني، دار المعرفة/بيروت ط2، 2005، والمصادر الأخرى المذكورة أعلاه في شعراء العصر الجاهلي.

12. المقصود به الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد.

أحدث المقالات