هذه الدراسة تناولت مناقشة الاسباب التي كانت وراء لجوء السيد الشهيد محمد الصدر (رض) الى الكتابة القصصية بدلا من الخطاب الديني المباشر في الستينات من هذا القرن، وماهية التقية الصدرية.. وهنا سنناقش ماهية الاصلاح وما يحتاجه..
الاصلاح وما يحتاجه وملازماته: تناولت الاقسام السابقة من هذه الدراسة، مفهوم التقية الحقيقية التي استند لها الصدر في استخدامه الخطاب القصصي والرمزي، حسب فهم الباحث، واهمية موضوع قصة النصيحة الاخيرة، وتعرضت الدراسة الى مراحل القصة وهي: وصف الغابة، ثم وصف الشخصية الاساس وهي اللبوة، ثم وصف قواعده الشعبية وهم اشبالها، ثم المرحلة الرابعة وتضمنت وصف القوى المحيطة بهم، وهما الارنب الطيب والثعلب الخبيث، اما المرحلة الخامسة، فقد وضحت موقف اللبوة في الصراع المعنوي بين قوى النصح وقوى المكر، ورفضها للارنب الناصح،وفي هذا القسم يناقش تنبوء الصدر بحصول معارضة شديدة ضد المصلح الناصح، لان الشخصية الاساس في القصة (اللبوة) رفضت نصيحة الطبيب الارنب، وتهجمت عليه دون وجه حق، ومع الالتفات الى ان القصة قد كتبها الصدر في الستينات، فان سماحته متوقع ومستعد لمعارضة المشهور (الخط التقليدي السائد) لاصلاحاته. ان قصة النصيحة الاخيرة، اظهرت تفاصيل الاستتقبال والترحيب بالطبيب (الارنب) وتعريفه بما يليق به من قبل الاشبال، وبعد ان قدم الطبيب نصيحته الطيبة الى اللبوة، وكانت نصيحته كاشفة لتمارض اللبوة، وداعية الى انتفاضها على واقعها الجمودي، لم ترضى اللبوة بالنصيحة الاصلاحية، ورفضت هذا المصلح وطردته، مع وصفه اياه بصفات غير لائقة، وهذا قد حصل لاغلب المصلحين، العاملين لاجل تحريك الامة وانطاقها، وعلى راسهم الشهيدين الصدرين .. وقد اشار السيد مقتدى الصدر الى هذا المعنى في أحد لقاءاته، ومضمونه: أن المتشرعة قد اطلقوا على السيد محمد الصدر لقب الصادق الامين، لكنهم انقلبوا عليه بعد تصديه للمرجعية والولاية..!
….المجتمع والنصيحة: ويبدو ان رفض المشهور يتعدى المصلح الاعتيادي الى المصلح المعصوم، وبالرغم من حالة الحب والانتظار المعلن للامام المهدي (ع) فانه وبعد ظهوره واعلانه خطة الاصلاح الديني والدنيوي يلاقي معرضة شديدة ممن يدعي اتباعه، فقد ورد عن الشهيد في الجمعة الرابعة في مسجد الكوفة بتاريخ 11 محرم 1419 وصف لحالة الظهور وحالة المعارضة ضده من قبل رجال الدين، فقال:
ويدخل الناس في دين الله افواجا. في حين السيف مشتغل في الشرق في قتل الفلانيين الذين يعارضوه حيث انه يخرج له جماعة من رجال الدين ويمر رجال الدين ويقولون له الاسلام بخير والدين بخير ارجع من حيث اتيت. انتهى. وتضمنت المرحلة الخامسة من القصة، استشارة اللبوة لمدعي ماكر وهو الثعلب، والذي استغل قلة الوعي لدى اللبوة واشبالها، وانتهز الفرصة لتجميد دور اللبوة في المجتمع الغابي، لاجل التفرد في الساحة، فوصف لها عدد من الادوية الضارة، وسبب في ايجاد تشنج ومرض حاد، وصفت القصة تلك الاحداث كالتالي:
ولم يمر على اللبوة، زمان طويل، الا ورأت اشبالها عائدين، وبصحبتهم ثعلب شاب قوي، تقفز من عينيه علائم المكر والدهاء، وتنطق حركاته بالحيوية والنشاط، وتدل ملامحه على ما في نفسه من نزوات الشباب. واقتربوا منها، وأقعى الثعلب عن قرب، وابدى تحية مقتضية باحترام الى اللبوة المريضة، ثم أستأذنها بمباشرة اعماله كطبيب، فأذنت له. أطال الثعلب الفحص، وقلب المريضة ظهرا لبطن، وتأكد في فحصه عدة مرات وكان بين الفينة والفينة، يفتر عن الفحص، ليفكر ويتدبر. ….. المعسكر الاخر: وعندما انتهى، رفع راسه بدهاء ومكر، وهز راسه هزة خفيفة، توحي للبوة، انه مشفق عليها، رحيم بها، ثم ابتدرها بالكلام قائلا: انني آسف، اذ أخبرك، ان بدنك محتو على عدد من الامراض الجسيمة، والعلل الخطيرة، من اضطراب القلب وتضخم في الكبد وقرحة في المعدة، وهذه الامراض تحتاج الى طول في العلاج، وكثرة في الدواء. انتهى. وتصف القصة الاسلوب الاستدراجي للجهات الماكرة، فانها تمسحت بالعلمية والمهنية، واعلنت حبها وتعاطفها مع اللبوة، لاجل اقناعها بمرضها الوهمي، وذلك لاجل ايصالها الى مرحلة الجمود والانعزال، فقال الثعلب بعد فحصها: وانه ينبغي لك ان لا تفكري في شؤون الحياة، وان لا تحملي بين جنبيك همومها والامها وتتعبي على تحصيل لقمة العيش اليها، وانما دعي ذلك الى اشبالك الكرام، الساهرين على راحتك وحسن مداراتك. ثم تشير القصة الى وصف الثعلب لعدد كبير من الادوية المهلكة لها، والتي جهزها اشبالها بعد تعب وعناء، وكانت تلك الادوية سببا في مرضها وانكماشها. …… الرمزية في النصوص : ثم ان استخدام الرمزية في قصة النصيحة الاخيرة تستند الى الذوق الاسلامي في التثقيف العام، لان الرمزية قد استخدمت في القران والسنة النبوية الشريفة، ومدرك ومستند ذلك ما اورده الصدر في موسوعته، فقد ثبت مبدا استخدام الرمزية من قبل السنة الشريفة وخاصة في موضوع الامام المهدي (ع) فكتب سماحته في مقدمة (ما بعد الظهور) ما نصه:
قيام الاخبار الناقلة لحوادث المستقبل, على الرمزية في كثير من أساليبها ونقاط عرضها, وخاصة فيما يعود الى شخص المهدي(ع) كقوله في بعض الروايات الاتية “اذا هز رأسه أضاء له ما بين المشرق والغرب” وانه “يضع يده على رؤوس الانام فيجمع احلامها” وان “رأيته ليست في قطن ولا كتان وانما هي ورقة من اوراق الجنة” وغير ذلك من التعبيرات. ويراد بها حقائق اسلامية واعية لكنها لم تستعمل المداليل الاعتيادية للالفاظ. وانما استعملت الرمزية التي عرفنا معناها في تاريخ الغيبة الكبرى. انتهى . ….. الرمزية في السنة النبوية: وقد اورد سماحته تاكيدا صريحا على استخدام الرمزية من قبل النبي الاكرم (ص واله) لاجل الايصال الاجمالي لمعاني عالية ودقيقة، وخاصة عندما تكون القواعد الشعبية غير مؤهلة لذلك في زمانه، ويحتمل ان تكون مؤهلة في الاجيال المستقبلية، وينتج وينقدح من هذا: ان الرمزية توفر فهما اجماليا للمستويات الثقافية المحدودة، بينما توفر فهما اعمق لمستويات اعلى، اي ان الرمزية لها فائدة المعادلة الرياضية الحاوية على المتغيرات، والقابلة للتطبيق في اكثر من زمان ومكان، بل مفيدة في اكثر من موضوع، وبمعنى اعمق: ان الرمزية توفر هيئة اوقوالب جاهزة لخدمة مواد وقضايا متعددة، فقد اورد الصدر في المصدر اعلاه ما نصه:
ونحن نعلم أن استعمال الرمز على لسان النبي (ص واله) والأئمة (ع) أمر غير غريب، وخاصة فيما يكون فوق فهم السامعين المباشرين لهم، كما هو الحال في التعبير عن حوادث تاريخ ما بعد الظهور. انتهى كلامه. ثم ان السيد الشهيد بنى على رمزية النصوص الشرعية، في كتابته للموسوعة المهدوية، واستند الى تفكيك الرموز لاجل الوصول الى نتائج هامة وخطيرة في موضوع الظهور والتخطيط الالهي العام، وقد بين وجود مصالح معتد بها من وجود الرمزية في الادلة الشرعية، فكتب في المصدر اعلاه ما نصه:
.. أننا سرنا في التاريخ السابق على اسلوب معين في فهم غالب الحوادث الواردة في الأخبار، وهو أسلوب الحمل على الرمزية، لوجود الإطمئنان في كثير من الأحيان، بأن المداليل اللفظية للأخبار الناقلة لهذه الحوادث غير مقصودة. وإنما المقصود من ورائها الإشارة إلى حوادث اجتماعية مما قد يتمخض عنها التخطيط السابق على الظهور. وإنما صيغت بأسلوب الرمز لمصالح معينة… لعل من أهمها: أولاً: عدم الموافقة بهذه الحوادث مع المستوى الفكري للعصر الذي صدرت فيه هذه الأخبار. ثانياً: أنه لو صرح بهذه الحوادث وشرحت بوضوح، لامكن استغلالها واتخاذ مواقف سيئة منها، بنحو يخل بالتخطيط الإلهي العام. انتهى. ….. الدين والخطاب القصصي: ومن التساؤلات التي تثار حول قصة النصيحة الاخيرة: كيف صدرت القصة من عالم ديني؟ وان كان ذلك في شبابه، وكيف يستخدم اللبوة والارنب والثعلب في كتاباته؟ لان ذلك يخالف العرف العلمائي والروحاني. ويكون جواب ذلك: ان المنهج العلمائي ملازم للمنهج الرسالي المعصوم وفي خلافه نظر. اما اذا طابق المنهج العلمائي المنهج المعصوم، فان ذلك نقطة قوة له، وليس العكس، فان القران السنة النبوية الشريفة استخدمت القصص في التبليغ والتثقيف الديني، ويشير الصدر الى استخدام رمز الماشية في رواية نبوية شريفة تختص باحداث قبل الظهور، حينها تحتل القوى المادية العراق، ثم يحصل انهزام للمحتل بسبب مشاكل خطيرة واوبئة تحصل في بلاده، مما يضطره الى الانسحاب المفاجئ، تاركا اسلحته ومعداته، ويسيطر الجمع المؤمن على ما تركه المحتل للاستفادة منه في بناء الدولة العادلة، فقد ورد عن الصدر في الموسوعة ج3 وفي حديثه عن احداث ما قبل الظهور والدجال، مشيرا الى رمزية الاغنام في الحديث الشريف، فكتب مانصه:
.. ونرى كيف أنها أمدت هؤلاء بالخير الوفير والقوة والسيطرة “فتروح سارحتهم” أي أغنامهم، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوة “أطول ما كانت ذروعاً وأسبغه وامده خواصر” يكنى بذلك عما ينال المنحرفون من خير الحضارة المادية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مستقبل عريض. انتهى
وفي القسم الخامس، ستناقش هذه الدراسة الأثر التجديدي للسيد الصدر في الخطاب الديني، مع استكمال مناقشة مجريات القصة.