(الحَلْقَةُ الثَّانِيَةُ)
فِي الحَلْقَةِ الأُوْلَى مِنْ هَذا المَقَالِ، اسْتَعرَضْتُ الاتِّجَاهَاتِ الّتي النَّبِيّ مُحَمَّدٍ(ص). كَمَا أَشَرْتُ فِي تِلكَ الحَلْقَةِ، الاتِّجاهَاتِ الفِكرِّيَّةِ، الّتي ظَهَرَتْ عَلى السَّاحَةِ الاسْلاميَّةِ، بَعدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ(ص). و بَيَّنْتُ مَوْقِفَ الإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، فِي رَأْبِ الصَدّْعِ، الّذي حَصَلَ، بَيّْنَ المُهَاجِريْنَ و الأَنْصَارِ مِنْ جِهَةٍ، و بَيّْنَ المُهَاجِرِيْنَ أَنْفُسِهِمْ، حَوّْلَ مَوّْضُوعِ الخِلافَةِ. و مَدَى سَيْطَرَةِ العَقْلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، عَلَى بَعضِ المُسْلِمِيْن. و كيّْفَ كَانَتْ مُبَادَرَاتُ الامامِ عَلِيٍّ(ع) لإِخْمَادِ الفِتْنَةِ، الّتي كَادَتْ تَشْتَعِلُ، بَيّْنَ المُهاجِرِيْنَ و الأَنْصَارِ، و نَتِيْجَةً لِتلْكَ المُبَادَراتِ الرَّائِدَةِ، و المَوْاقِفِ الثَّابِتَةِ للإِمَامِ عَلِيٍّ(ع)، تَحَقَّقَتْ النَّتَائِجُ التَّالِيَةِ:-
أ. أَفشَلَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع) بِحِكْمَتِهِ، مشْروعَ المُتآمِرينَ عَلى وحْدَةِ صَفِّ المُسلِميْن.
ب. نَجَحَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، في إِرسَاءِ دَعائِمِ الوِحدَةِ الإِسْلامِيَّةِ.
ج. هَيَّأَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، الأَرضِيَّةَ المُنَاسِبَةَ لِيَكوْنَ المُسْلِمُونَ، قُوَّةً ناهِضَةً في العَالَم.
د. حَقَّقَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، حَالَةً مِنَ الاستِقرارِ السِياسِيّ الدَّاخِليّ، للدَّولَةِ الإِسلاميَّةِ الفَتِيَّة.
ه. قَدَّمَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، للأُمَّةِ المِثَالَ الرَّائِعَ، فِي إيْثَارِ المَصلَحَةِ العَامَّةِ، عَلى المَصلَحَةِ الخَاصَّةِ، و تَقْدِيْمِ مَصلَحَةِ الأُمَّةِ، عَلى مَصلَحَةِ الفِئَةِ أَو العَشِيْرَة.
و. أَكَّدَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، حَالَةً مِنَ الانْسِجَامِ، في الرَّأْيِّ العَامِّ، أَفْرَزَتْ أَنَّ قُوَّةَ الإِسْلامِ مِن قُوَّةِ المُسلِميْن.
2. عِنْدَ انْتِشَارِ خَبَرِ وَفَاةِ، رَسُولِ اللهِ(ص)، ارتَدَّتْ بَعضُ القَبائِلِ عَنِ الاسْلامِ، و قَصَدَتْ المديْنَةَ لِغَزوِهَا. فَبادَرَ الإِمَامُ عليٌّ(ع)، بنَفسِهِ لقِيَادَةِ حَملَةٍ عَسكَريَّةٍ، للدفاعِ عَن عَاصِمَةِ الدَّولَةِ الاسْلامِيَّةِ، المَديْنَةِ المُنَوَّرَة.
3. كانَ الإِمامُ عليٌّ(ع)، يَتَكَفَّلُ مُهِمَّةَ المُخَطِّطِ الاسْتِراتِيْجِيّ للدَّوْلَةِ، (كمَا يُعرَفُ في الوَقّْتِ الحَاضِرِ)، و نُلاحِظُ ذلكَ مِنْ خِلالِ عِدَّةِ مَوَ اقِفَ مِنْها:
أ. أَرادَ المُسلمونَ غَزوَ الرُّومِ، لتَعزيزِ تُخومِ الجَبهَةِ الغَربيَّةِ، للدَّولَةِ الاسلاميَّةِ الفَتيَّةِ. فاستَشَارَ الخَليفَةُ أَبو بَكْرٍ، جَماعَةً مِن الصحابَةِ، و كانَ مَوقِفُهُمْ يَرفِضُ هذهِ الفِكْرَة. و عنْدَما اسْتشَارَ الإِمامَ عَلِيّاً بِذلكَ، كانَ جَوابُ الإِمامِ(ع): (إِنْ فعلتَ ظَفَرتَ، فقَالَ أَبو بَكْرٍ: بَشَّرتَ بِخَيّْرٍ). و تَمَّ تَجهيزُ الجَيّشِ، و انتصَرَ المُسلِمونَ عَلى الرُّوْم.
ب. عِندَما قَرَّرَالمُسْلِمونَ قِتالَ الفُرْسِ، أَشَارَ الإِمامُ عَلِيٌّ، عَلى الخَليْفَةِ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، بخُطَّةٍ عَسكريةٍ، تُخَالِفُ كُلَّ الخُطَطِ، الّتي اقتَرَحَها غَيْرُه. و كانَ مُقتَرَحُ الصَحابَةِ، أَنْ يَخْرُجَ أَهلُ الشَّامِ، و أَهلُ اليَمَنِ، و أَهلُ الحَرمَيّْنِ و أَهلُ البَصرَةِ، و يَجتَمِعونَ كجيّشٍ واحدٍ، في مكانٍ بيّْنَ الكّوفَةِ و الشَّام.
رَفَضَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، هذهِ الخُطَّةَ لأَنَّها تُعَرِضُ، أَمصَارَ الإِسْلامِ إِلى خَطَرينِ.
الأَوَّلُ: خَطَرُ تآمُرِ أَعْداءِ الدَّاخِلِ، عَلى اسْقَاطِ مُدُنِ الاسْلامِ، و السَيْطَرَةِ عليّها. و فِي ذلكَ مُخَاطَرَةٌ مَادِّيَّةٌ و مَعنَويَّةٌ كبيرَةٌ جِدّاً.
الثّانِي: خَطَرُ انقِضَاضِ أَعداءِ الاسْلامِ فِي الخَارِجِ، عِلى حِواضِرِ المُسْلِميْنَ، و بذلكَ سَتُلْحَقُ هَزيمَةٌ كَبيرَةٌ بالمُسْلِمينَ، و بالاسْلامِ أَيْضَاً.
و كانَتْ خُطَّةُ الإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، أَنْ يُترَكَ أَهلُ الشَّامِ بِشَامِهِمْ، و أَهلُ اليَمَنِ بِيَمَنِهِمْ، لوجُوْدِ خَطَرَيْنِ يُهَدِّدَانِ، هذَيّنِ المِصْرَيّْنِ. فَالرُومُ يَهِدِّدوْنَ الشَّامَ، و أَهلُ الحَبَشَةِ يُهدِّدوْنَ اليَمَن. و أَنْ يُجْمَعَ الجَيّْشُ، مِن بَعضِ أَهلِ مَكَّةَ و المَديْنَةِ، و بَعضِ أهلِ البَصرَةِ، و جميع أَهلِ الكُوفَةِ. و أَنْ يكونَ مُعَسْكَرُ الجَيّْشِ، فِي الكُّوفَةِ، للانْطِلاقِ إِلى بِلادِ فَارِس.
ج. كانَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، يُقَدِّمُ أَوْلادَهُ و أَقارِبَهُ، للمُشَارَكَةِ فِي الحُروبِ الاسْلامِيَّة. فَمَثَلاً، أَرسَلَ ابْنَهُ الحَسَنْ(ع)، فِي عَامِ (19) مِنَ الهِجْرَةِ، للمُشَاركَةِ، فِي مَعرَكَةِ (نَهاوَنْدّ). حيثُ نَجَحَ الحَسَنُ(ع)، فِي إِخْمَادِ تَمَرُّدِ (الجَرّاحِ بنِ سِنانَ الأَسَديّ)، و اللذينَ تَحَالَفُوا مَعَهُ، للانْضِمَامِ إِلى جَبْهَةِ الفُرْسِ، لقِتَالِ الدَوّْلَةِ الاسْلامِيَّة.
كمَا وَجَّهَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، وَلدَيّهِ الحَسَنَ و الحُسيّْنَ(ع)، و عبدَ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ، للمُشَارَكَةِ فِي غَزوَةِ (طَبْرِسْتَانَ)، فِي عَامِ (30) مِنَ الهِجْرَة. و وَجَّهَ الإِمَامُ عَلِيٌّ عَدَداً، مِنَ الصَّحَابَةِ المُخْلِصِيْنَ لَهُ، و عَدَداً مِن بَنِي هاشِمٍ، للاشْتِراكِ فِي عِدَّةِ حُرُوبٍ، لِتقْويَةِ الجَانِبِ المَعنَويّ، في نُفُوسِ المُسْلِميْن.
4. قَامَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، بِدَوْرِ المُسْتَشَارِ النَّاصِحِ، و المُخْلِصِ الأَمَيْنِ، للخُلَفَاءِ الثَلاثَةِ الّذينَ سَبَقُوهُ. و اللذيّْنَ خَبَرُوْهُ بِأَنَّهُ(ع)، لَيْسَ مِنْ طُلَّابِ السُلْطَةِ، و لا مِنْ المُحِبْيّْنَ لِحُطَامِ الدُّنْيَا، و كانَ(ع) أَغْزَرُ النَّاسِ عِلْمَاً و فِقْهَاً، بَعدَ رَسُوْلِ اللهِ(ص). فكَانَ الكُلُّ يَثِقُونَ باسْتِشَاراتِهِ، و يَطْمَئِنُونَ لآرائِهِ و أَحكامِهِ و نَصَائِحِه. فَبَلغَ عَدَدُ المُراجَعَاتِ، الّتي رَجَعَ بِهَا الخُلَفَاءُ الثَلاثَةُ، للإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، كمَا يَلي:
أ. رَاجَعَ الخَليْفَةُ الأَوَّلُ الإِمامَ عَلِيّاً(ع)، عَشْرِ مَرَّات.
ب. رَاجَعَ الخَليْفَةُ الثَّانِي الإِمامَ عَلِيَّاً(ع)، تِسْعِيْنَ مُرَاجَعَة.
ج. رَاجَعَ الخَليْفَةُ الثَّالِثُ الإِمامَ عَلِيَّاً(ع)، عَشْرِ مُراجَعَات. و كُلُّ المُراجَعَاتِ كانَتْ، فِي قَضَايا مُهِمَّةٍ و مَصِيْريَّةٍ، حَتّْى أَصبَحَ قَوْلُ: (لولا عَلِيٌّ لَهلَكَ عُمَرُ، أَشْهَرُ مِن نَارٍ عَلى عَلَم).
5. نَظَراً للثِّقَةِ الّتي حَظَى بِهَا الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، فِي نُفُوسِ الخَاصَّةِ و العَّامَّةِ، نَتِيْجَةً لِتَربِيَتِهِ النَّبَوِيَّةِ، و اسْتِعدَادَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، أَصبَحَ الإِمامُ(ع)، حَرِيَّاً بأَنْ يَكونَ مُسْتَأْمَناً، عَلى أُمُورِ المُسلِميْن. فَقَدّْ اسْتَخْلَفَ الخَلِيْفَةُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، الإِمامَ عَلِيَّاً(ع) عَلى المَديْنَةِ، عِندَما ذَهَبَ الخَلِيْفَةُ، إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فِي عَامِ (15)، مِنَ الهِجْرَة. و اسْتَخْلَفَهُ ثَانِيَةً، في عَامِ (18) مِنَ الهِجْرَةِ، عِندَما قَصَدَ الخَلِيْفَةُ الشَّامَ.
هَذهِ الشَّذَراتُ، و تِلكَ الاضَاءآتُ، الّتي قَدَّمَها الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، لِلمُجتَمَعِ الإِسْلاميّ، قَبْلَ أَنْ يكُونَ حاكِمَاً، و عِنْدَما زَوَتْهُ الأَهْوَاءُ، الّتي عَطَّلَتْ دَوْرَهُ الرِّساليّ. فَيَا تُرَى، كيّْفَ كانَتْ مَواقِفُهُ، و هُوَ يَتَوَلّْى أُمُورَ المُسْلِميْنَ، بِصُورَةِ مُبَاشِرَةٍ، حَيْثُ السِّعَةُ فِي الصَّلاحيَّاتِ، و القُدّْرَةُ عَلى اتِّخَاذِ القَرَارَاتِ، بِصُوْرَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، طِبْقَاً لمَا جَاءَ فِي القُرآنِ الكَريْمِ، و السُنَّةِ الصَّحِيْحَة؟.
إِنَّ الإمامَ عَلِيّاً(ع)، أَسَّسَ مَدرَسَةً فِكريَّةً و أَخْلاقِيَّةً، فَريْدَةً مِن نَوّْعِها. و إِذا مَا قَارَنّْا اليَوّْمَ، ما يَقُوْمُ بِهِ، بَعضُ المُتَنافِسِيْنَ عَلى السُلْطَةِ، مَعَ جُزْءٍ مِنَ المَواقِفِ الوَضَّاءَةِ، للإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، نُدّْرِكُ عُمْقَ مَأْسَاتِنَا الأَخْلاقِيَّةِ، و مِقْدَارِ زَاويَةِ انْحِرَافِ بَعضَنَا، عَن جَادَّةِ الحَقِّ و العَدلِّ، وَ مَدَى التَّيْهِ الّذي نَعيْشُ فِيْه. فَيَالَيْتَ أَنْ تَكُوْنَ هُناكَ مُراجَعَةً جَادَّةً، لمواقِفِ المُتهافِتِينَ عَلى السُلْطَةِ، فَيَضَعُوا نُصّْبَ أَعيُنِهِمْ، تَجرِبَةَ الُمعاَرَضَةِ الّتي خَاضَهَا، الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، ليَسْتَنْبِطُوا بَعضَ الدُّروْسِ مِنْها، و بِذلكَ يَسْتَرشِدُونَ بالطَّريْقِ النَيّْرِ، الّذي رَسَمَهُ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع) لِهَذِهِ الأُمَّة. فَسَلامٌ عَلى أَميْرِ المُؤْمِنِيْنَ الإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، يَوّْمَ ولِدَ و يَوّْمَ اسْتُشْهِدَ، و يَوّْمَ يُبْعَثُ حَيّا، و العَاقِبَةُ للمُتَّقِين.
المصادر:
عَلِيٌّ ميزانُ الحَقّ/ السيّد محمد حسين فضل الله.
عَلِيُّ بنُ أَبي طالبٍ(ع) رَجُلُ الدَّوْلَةِ و المُعارَضَةِ/ د. محسن باقر القزويني.
عَلِيٌّ و الخُلَفَاءُ/ نجم الدين العسكري.
الدَّلِيلُ العَقْلِيّ عَلى إِمَامَةِ عَلِيٍّ(ع)/ عَلِيّ الحسيني الميلاني.
أَزمَةُ الخِلافَةِ و الإِمامَةِ / أَسعد وحيد قاسم.