تتطلّع الشعوب بأسرها لإقامة أنظمة حكمها العادلة ، فمنذ اليوم الأول لاجتماع الناس وشعورهم بالحاجة إلى نظام يصون حياتهم ويحفظ مصالحهم ، وهم يحلمون بما يسمى بالحكم الرشيد ، حتى تحوّل ذلك الحلم البشري القديم إلى عمل فكري كبير ودائم شغل تفكير الفلاسفة والمصلحين وعامة الناس على مر العصور ، كما إنه في الأصل كان هدفا أصيلا من أهداف الرسالات السماوية جمعاء . واجتهد المفكرون في توصيف الحكومة الرشيدة وما ينبغي أن يكون عليه الحاكم الرشيد فكتبوا في أسس الجمهوريات العادلة وأركان المدن الفاضلة وصفات الملوك والحكام العدول ، واستند هذا الحلم الذي تحول إلى فكر وفلسفة وطموح إلى فرضية إن صلاح الحكومة أو الحاكم بالتحديد سينتج نظاما صالحا وشعبا صالحا ودولة صالحة . ومع إن التأريخ أثبت مرارا خطل هذه الفرضية وعدم إنصافها إلا الناس لا زالوا يحومون حولها معيدين لتسويقها بأشكال جديدة . ومثلما كان للإسلام نظريته الخاصة في كل شيء ، كان له أيضا نظريته في هذه المسألة. فقد تعامل الإسلام مع الحكومة والشعب بصفقة واحدة لأنه كان يعلم إن أية حكومة مهما كانت صالحة ورشيدة سوف لن تتقدم باتجاه العدالة والصلاح والإنجاز إذا كان الشعب فاسدا أو بائرا , وإن أيَّ شعب صالح سوف يبقى مكبَّلا ومحجوبا عن الانطلاق نحو الفضيلة إذا كانت حكومته خبيثة أو منحرفة . فالدولة المستوفية لشروطها في الإسلام يجب أن تقوم على جميع أركانها حالها حال بقية العبادات كالصلاة والحج وغيرها ، والتفريط بأي ركن من تلك الأركان يعني عدم اكتمال البناء وعدم براءة الذمة في تلك الحالة ، الدولة في الإسلام تعني الراعي والرعية والنظام الذي يؤلف بينهما .
والرعية لا تنحصر بمؤيدي الحاكم أو الساعين في خدمته والترويج له ، إنما تشمل جميع المواطنين حتى أعدائه ومعارضيه شاء أم أبى !! وقد قدّم الإمام علي – عليه السلام- مفهوما حيّا ونزيها لنظام إسلامي فريد وجده في القرآن الكريم وانتهله من معلمه الأول الرسول الأعظم ، نظام عملي يعتمد على صلاح المواطن أساسا ، لأنه كان يعلم إن المواطن الفاسد لن يكون حاكما صالحا إذا ما تهيأ له الحكم في يوم من الأيام . نادى علي بصلاح المواطن واجتهد في تقديم نفسه مثالا حيّا له ، غير مبالٍ أن يكون معارضا للحكومة أو مواليا لها ، لان صلاح المواطن بحد ذاته سوف يجعله نافعا لمجتمعه في أي الفريقين كان ! يعلّمنا علي- عليه السلام- من خلال مثال ( المعارضة العلوية ) الذي قدّمه إن البحث في صفات المعارض الرشيد لا يقل شأنا وخطورة عن البحث في صفات الحاكم الرشيد . آيةٌ واحدة مركزية في القرآن الكريم جعلت علي- عليه السلام- يقدم هذا النموذج الفريد في صفات المواطن المعارِض ، هي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، فقد كان علي- عليه السلام- دائما مهجوسا بصلاح المجتمع ، ولم يكن يهتم كثيرا بمسألة موالاة النظام ومعاداته قدر اهتمامه بسعادة الجماعة ونجاحها في الحياة . إن فشلنا في تفسير سيرة علي- عليه السلام- أحيانا يرجع إلى ركوننا إلى معايير ومفاهيم سياسية منعزلة وفقيرة في فهم معنى الولاء والعداء السياسي لن تقدر بوضعها التي هي عليه أن تفسر لنا ما حدث ، كنا كمن يريد أن يقيس المسافة بين الكواكب بالسنتمترات وكانت وحدات القياس لدى علي بن أبي طالب- عليه السلام- أكبر من جميع مسافاتنا . لقد كان يقطع أشواطا بينما بقينا نحبو في فناء الدار ! فما زال بعضنا يعدُّ الخدمات الجليلة التي قدمها علي لهذه الأمة في عهد الخلفاء بعد رسول الله
على إنها خدمات للنظام وإنها دليل على طاعة علي- عليه السلام- لذلك النظام واعترافه بشرعيته . بينما ما زال البعض الآخر ممن يؤكدون على أفضلية عليٍّ- عليه السلام- وامتيازه الأول على غيره في استحقاق منصب الخلافة ويتخذون ذلك أساسا عقائديا لبناء مذهبي معيّن ، يطيب لهم أن يصوّروا تلك الخدمات على إنها كانت سعياً من جانبه إلى إظهار تفوّقه عليهم وكشف عجزهم عن مجاراته فيما كان يمتلك من موهبة وفضيلة . والواقع إن كلا الفريقين لم يكن موفقا في تفسيره . فلم يكن علي- عليه السلام- يخطب ودَّ السلطة عندما قام بذلك ، وهو أيضا لم يكن ينتهز الفرص لإحراجها فعفته أكبر من ذلك . كل ما في الأمر إنه كان سخيا في تقديم خدماته للمجتمع ولم يكن يهتم أصلا من أي طريق تصل تلك الخدمة . كان المهم عنده أن تصل وكفى . كانت المصلحة العامة و نشدان السلم الأهلي هما الحاكمان في رسم طبيعة الحركة السياسية والاجتماعية الغنية والبنّاءة في حياة علي بن أبي طالب – عليه السلام-. وكان كلّ ذلك ينطلق من طلب رضا الله تعالى ورجاء قربه . وقد شاءت الأقدار أن لا يتبوأ علي- عليه السلام- ذلك المنصب الخطير وأن يكون في صفوف المواطنين لثلاثة عهود من حكم الخلفاء الذين سبقوه قبل أن تلقي الخلافة عصاها وتستقر بها النوى عند قدميه وتعود له كالعبد الآبق أو الابن الضال . مع إنه لم يبتعد أو يترفّع يوما عن جماهير الشعب حتى بعد أن صار حاكما . فكيف كانت سيرته خلال ذلك ؟ تلك السيرة العريضة الغنية الحافلة كانت تنشد مصلحة الأمة وتطلب السلم الأهلي ، وهذا العنوان الصعب كلّف عليّا- عليه السلام- الكثير من التضحيات في سبيله . وكان هو المحور والمحرك الذي حكم سلوك أمير المؤمنين إبان حكم الخلفاء الذين سبقوه . ليكون مثالا قلّ متبعوه في الماضي والحاضر ، بعد أن ذهب الناس في تفسير مذهب عليّ وفلسفته في الحياة شمالا ويمينا لأنهم كانوا ينظرون إليه من ثقوبهم
الضيقة التي لم تستوعب عالمه الرحب وأفقه الفسيح . بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وآله – تأملَ علي في صورة هذا الكيان الفتي فرمقه بعين الرأفة والشفقة وحنا عليه يضُّمه بين أضلاعه ويرقأه بجفونه . تجاوز علي- عليه السلام- منزلة العدل المستندة إلى الحق ، إلى منزلة الإحسان النابعة من توقه الدائم إلى الخير المطلق متلبسا بقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) ، و كان لمبدأ الإحسان أهميته البالغة في النظرية الإسلامية فقد تكرر في القرآن الكريم إن الله يحب المحسنين وإنه لا يضيع أجرهم وإنه سيزيدهم من فضله ، وجاء ذلك التكرار ثماني وعشرين مرة بسياقات مختلفة . ومن هذا المبدأ انطلق علي – عليه السلام –فعلّمنا أن على المواطن الصالح أن يتجاهل الإساءة الشخصية في سبيل حبه لبلاده ، عندما قام بتقييم الصورة الكلية لوضع الدولة آنذاك فآثر سلامة المجتمع على سلامته ومصلحة الأمة على مصلحته فلنصغي إليه جيدا وهو يقول : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَاللهِ لاَُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً، الِْتمَاساً لأجر ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيَما تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ) وهذا هو الإيثار الكريم الذي جعله الله من نياشين المؤمنين الذين قال عنهم :(( لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) . ولم يكتفِ علي بالالتزام بهذا النهج لوحده بل فرضه على أوليائه ومريديه طالبا منهم الهدوء والسكينة ، فقد روي أنه في تلك الظروف الدقيقة من حياة الأمة ، والتي كانت تحبس الأنفاس (جاء بريدة الأسلمي حتى ركز رايته في وسط أسلم ثم قال: لا أبايع حتى يبايع على بن أبي طالب، فقال علي: يا بريدة ادخل فيما دخل فيه الناس، فان اجتماعهم أحب إلى من اختلافهم اليوم) وكان علي- عليه السلام- يستطيع أن يحشد طائفة من المؤمنين به والمتحمسين له
فيقلب الأوضاع بوجه الجميع ، ولم يكن تجميع الناس يومئذٍ أمرا صعبا على قطب من أقطاب الحرب والسياسة ، كما إن المؤمنين به وبقضيته لم يكونوا قلة كما تصوّر بعض الروايات ، فقد قاتل معه في حروبه في الجمل وصفين مئات الآلاف . لكن عدة أسباب مبدئية وواقعية اشتركت في صياغة موقف علي- عليه السلام- وجنوحه للسلم يومذاك ومنها : أولا : إنه قدّر جيدا الخطر الداهم على الأمة المتمثل بارتداد بعض القبائل العربية عن الإسلام وخروج بعض المتنبئين الكذابين في بعض أقطار الجزيرة ، فعلم إن إظهار المزيد من الخلاف سيهدد الكيان الإسلامي برمته وسيرجع بالأمة إلى طوائف وقبائل متناحرة ، وذلك ما كان يقض مضاجع علي- عليه السلام- فعلا ، وقد عبّر عن ذلك بأوضح صورة حين قال يصف حالَهُ والأجواء العامة ذلك اليوم 🙁 فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلام، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسلام وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحداث حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ ) ، وفي هذا القول الذي نطق به علي- عليه السلام- بلسانه دليل واضح على نهوضه في محاربة المرتدين وذبّه عن حياض الإسلام مع إن التاريخ ربما يكون قد أغفل ذلك كثيرا ، ومع فرض عدم مشاركته في تلك الحروب وإن المقصود بنهوضه هو تحملّه للمسئولية ، فأن مجرّد تأجيله للمطالبة بحقوقه لا يقل فائدة عن ذلك إذا لم يُعدّ عملا مهما في دعم الجهد الجماعي لمحاربة حركة الارتداد الانفصالية ، ومع هذا فان بعض المؤرخين ينقل لنا مساندة واضحة ومشورة مخلصة من لدن علي- عليه السلام- للخليفة أبي بكر عندما همّ للخروج بنفسه
لقتال المرتدين فقال له : ( شم سيفك لا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام؛ فرجع وأمضى الجيش ). فيا لله !! ما كان يحمل علي- عليه السلام- بين جنبيه من قلب طهور ؟! وما كانت تشتمل عليه جوانحه من نفس عفيفة ؟! وسنرى إن هذه النصائح المخلصة سوف تتكرر مع جميع الخلفاء ، حتى ليُخيّل للمرء إن عليا- عليه السلام- كان عضوا من أعضاء حكوماتهم ، وقد صرح بعض الكتاب والباحثين متوهما ذلك قائلا : ( فقد كان في عهد الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه عضوا بارزا في مجلس الشورى ، مستعدا أبدا لمساعدتهم بنصحه وإرشاده) ، في الحقيقة لم يكن علي عضوا في مجلس الشورى ولا في أيّة حكومة ، لكنه كان وزيرا شعبيا كفوءً ومخلصا بلا حقيبة ، وطالما قدّم ذلك الوزير خدماته الغالية ومشورته المخلصة دون مقابل . وهو كان يدرك جيدا هذا المنصب الوطني الشعبي الذي اختاره لنفسه ، ألم يقل لمن جاء يبايعه : (أنا لكم وزير ، خير مني لكم أمير) ثانياً : خطر ثانٍ لا يقل شأنا عن الخطر الأول ويتمثل بسعي بعض القوى الرجعية الداخلية ممن كانوا يكيدون للإسلام و يتربصون الفرص والدوائر للانقلاب عليه وأغلبهم من مسلمة الفتح والطلقاء ، وكان على رأسهم أبو سفيان بن حرب الذي قَدِم على علي- عليه السلام- يحرِّضه على مناجزة القوم الذين كانوا مع أبي بكر فقد ( أقبل أبو سفيان وهو يقول والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ، أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس ، وقال : أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك فأبى علي عليه فجعل يتمثل بشعر المتلمس : ولن يقيمَ على خسفٍ يراد به … إلا الأذلان عيرُ الحيِّ والوتدُ هذا على الخسف معكوس برمته …. وذا يشجُّ فلا يبكي له أحدُ فزجره علي وقال إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا لا
حاجة لنا في نصيحتك ) ، وبذلك قطع عليٌّ الطريق على كلّ محاولة للتآمر على الإسلام ودولته النامية ثالثا : رغبة علي – عليه السلام- في أن يؤسس لسنةٍ ثابتة في الوصول إلى السلطة ، وجعل طريق التداول السلمي هو السبيل المختار في ذلك ، فقد أدرك علي- عليه السلام- خطورة التأسيس لتقليد ذميم قام فيما بعد على الوصول إلى السلطة بحد السيف أو السطو عليها بالاغتيالات والانقلابات والمؤامرات . وهنا قد يقول قائل : ألم يستعمل علي- عليه السلام- القوة مع معارضيه في الجمل وصفين ؟! فنقول إن دفاع الشرعية عن نفسها بوجه الخارجين عليها والباغين على المجتمع أمر مشروع بذاته إن لم يكن واجبا شرعيا ووطنيا قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، وقال : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) . وعندما قاتل علي- عليه السلام- هؤلاء المارقين والقاسطين والناكثين كان هو الخليفة الشرعي الذي أجمعت الأمة على بيعته . وكان من أولى واجباته الشرعية والوطنية هو الدفاع عن مصالح الأمة وحماية مواطنيها ووحدة وسلامة أراضيها . إن هذا التأسيس لسلمية المعارضة بقي سمةً فارقة لنهج علي -;– عليه السلام- ونهج جميع الأئمة الطاهرين من ذريته ، فلم يؤثََر عن أحد منهم انخراطه في الحركات المسلحة التي قامت بوجه الحُكمين الأموي والعباسي ، بل رأيناهم يتوقفون كثيرا وينأون بأنفسهم عن تلك الحركات حتى لو قام بها المخلصون أو اقرب المقربين إليهم . وينطبق هذا على ثورة أبي عبد الله الحسين – عليه السلام – فهو لم يكن طالبا لحرب أو متعطشا
لقتال ، وقد فُرض عليه القتال فرضا بعدما فشلت جميع عروضه التي وفرها لأعدائه بالجنوح للسلم أو التخلية بينه وبين ما شاء الله من ثغور الدولة أو تسييره حراً إلى الطاغية يزيد. مكاسب المعارضةِ العلوية يسهل علينا أن نخلص من كل ذلك إلى تثبيت ميّزات نموذجه الفريد في المعارضة ، وذلك يتبين من الإجابة عن سؤال جوهري هو : ما هي الثمار التي جنتها الأمة من معارضة عليٍّ لغيره و ما هي نتائج معارضة غيره له ؟ أولا : أثمرت معارضة علي لغيره مفهوما جديدا للمعارضة الرشيدة ، يقوم على طلب الإصلاح لا طلب السلطة . وما يترتب على ذلك من السعي والاجتهاد في خدمة المجتمع بغض النظر عن السلطة التي تحكمه . وبناءً على هذا المفهوم فأن الأمة لن تُحرم من أي جهد من جهود أبنائها سواء المتصدين للحكم أو المعارضين له . وهذا كسب ثمين لن تجده مع المعارضات التقليدية التي ترهق كاهل الدولة وتشتت جهود المجتمع . وبه أثبت علي – عليه السلام – إنه لا يُشترط بالمرء أن يكون في السلطة لكي يسهم في بناء المجتمع ، وهذا ما أثبته أيضا الأئمة الطاهرين من أبناء علي عندما قدّموا خدماتهم الجليلة للأمة وهم خارج السلطة ، بل وهم محارَبون مستبعَدون من قبَلِها !! ثانيا : طلب الإصلاح بذاته أنتج مبدأً آخر ارتبط به وهو مبدأ نبذ العنف طريقا لحيازة السلطة ومعاداة النظام . وهذا الشغف بالسلم الأهلي لم يكن سمة من السمات الحضارية لمواطنة علي ومعارضته فحسب بل كان سمة من سمات حكمه أيضا وشخصيته المسالمة السموحة على مرّ الأوقات وتعدد الأدوار . ثالثا : أسهمت المعارضة العلوية في تقوية ساعد الدولة وعدم إلهائها بالمشكلات الداخلية التي تثيرها المعارضات التقليدية عادة . وذلك بيّن من خلال ملاحظة تصاعد وتيرة النمو
الجغرافي والعسكري والاقتصادي الذي تحقق إبان حكم الخلفاء ومساندة علي- عليه السلام- وتسديده كما رأينا ، بينما كانت معارضة الآخرين لعلي- عليه السلام- إبان حكمه عوامل تعطيل كبرى وخطيرة لجهوده الخلاقة في البناء والانجاز والتي كان من الأكيد إنها ستصل مراحل متقدمة لو أنه أُخلي بينه وبين ما يريد ، وعدم شغله بالفتن والحروب الداخلية التي أثارها أعداؤه ومعارضوه بوجهه . رابعاً : تعلّمنا المعارضة العلوية التحليّ بشيمة رائعة ندرت في هذا الزمن وهي شيمة الثناء على العمل الجيّد وتعزيزه ودعمه حتى وإن صدر من أعدائنا ، وذم العمل القبيح وهجره حتى وإن صدر من أوليائنا . فالحق لا يُعرف بالرجال وإنما يُعرف الرجال بالحق ، والحكمة ضالة المؤمن ، فلا غضاضة أن يأخذها من أينما صدرت ، إن الإنصاف في التعامل مع الآخرين وتقييمهم سجيةٌ قرآنية أرشد إليها القرآن الكريم كثيرا ، عندما نبّه إلى إتخاذ المعيار الموضوعي في التعامل مع القضايا وتثبيت حقها من باطلها ، وذمَّ الذين يركنون إلى المعيار الشخصي أو العصبي الفئوي في ذلك ، فقد قال تعالى في شأن أولئك : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ، فعلينا أن نقلع عن التعامل مع الآخرين بأحكام ومواقف مسبقة ومعبئة ، فنغمض عيوننا عن محاسنهم إن كانوا لنا مخالفين ، وعن معايبهم إن كانوا لنا مؤالفين ، وهذه السقطة هي مما يُبتلى به معظم المعارضين . ولم ينجُ منها ويتحلى بالإنصاف إلا النادر منهم فبالإضافة إلى كون الإنصاف من مبادئ الدين ، فإن له فوائد اجتماعية جمّة منها نزع الحقد وإطفاء النائرة وتشجيع المعاندين والمتغطرسين على العودة عن غيّهم ، وهذه المكاسب كم فيها من صلاح ونجاح للمجتمع . وقد أوجز أمير المؤمنين كلّ هذه المعاني بقوله : ( الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف )