انتجت السينما الامريكية قبل ما يقرب العقدين من السنين فِلماَ بعنوان (أكلة اللحوم قادمون). تدور فكرة هذا الفلم حول أنتاج جهاز المخابرات نسخة من مخلوقٍ مشابه لانسان موجود فعلا، فكانت النسخة مخلوق غريب أداءه آليا مبرمج فهو لذلك خالٍ من أي إبداع، ذلك لأنه فقد الجانب الروحي في تكوينه حتى تحول الى مجرم يبحث عن الانسان الاصل و الذي هو شبيهه ليقتله، حيث يتعرف هذا المخلوق المستنسخ على الانسان الاصل الشبيه به من خلال ما يحمل هذا الاصل من عاطفة و مشاعر إنسانية. و المقصود بالجانب الروحي هنا ليس ما يقتصر على النظرة الفلسفية للكون بل ما يتسع الى المشاعر و العواطف و الفكر و الفن.
تداعت في ذهني فكرة هذا الفلم حين وقعت في يدي الخطة الجديدة للاجازات الدراسية خارج العراق للعام الدراسي (2014 ـ 2015) التي إعتمدتها وزارة التعليم العالي العراقية و أجبرت كل الوزارات على تطبيقها رغم ان الوزرات العراقية كانت قد تقدمت بطلبات للاجازات الدراسية خارج العراق بكل التخصصات بلا إستثناء، إلا أن خطة وزارة التعليم العالي خلت تماما من التخصصات التي طلبتها هذه الوزارات و المتعلقة بما إصطلحت هذه الوزارة على تسميتها بـ (العلوم الانسانية). فقد حجبت الوزارة الاجازات الدراسية العليا خارج العراق في تخصصات (اللغات و آدابها ــ عدى اللغة الانجليزية ــ، علم الاجتماع، علم النفس، علم التاريخ، علم الجغرافيا، العلوم السياسية، الفلسفة، العلوم اللاهوتية، و تخصصات الفنون و التربية و الرياضة … الخ).
وزارة التعليم العالي تقدم تبريرا لهذا القرار بأن إمكانية الدراسات العليا في تخصصات (العلوم الانسانية) متوفرة في العراق. كما أني عثرت على وثيقة همش عليها أحد أصحاب القرار في هذه الوزراة، و هو يقصد بهامشه هذه التخصصات، بالعبارة التالية: (هذه التخصصات متوفرة في العراق كما أن الوزرات ليست بحاجة اليها، و عليه فيجب أن نلتزم بما قرره معالي الوزير).
هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فان هذه الخطة منعت اصحاب الاجازات الدراسية من إكمال دراساتهم العليا في الدول العربية و أبقت على إمكانية الالتحاق بالجامعات الايرانية لاكمال هذه الدراسات و بحجة أن رصانة جامعات الدول العربية منخفض عالميا قياساً بالجامعات الايرانية.
هناك مفهوم متخلف لدى أصحاب القرار في هذه الوزارة قائم على أن المجتمعات تتطور بالعمران و العلوم الطبيعية و الطبية فقط، أو أن الاولوية في الحالة العراقية التعليمية الان هي لتطوير الدراسات الهندسية و الطبيعية و الطبية فقط. و لأن خبرات العالم قد تطورت كثيرا في هذه المضامير و العراق قد تخلف كثيرا فيها فعلى العراق أن يجهد في الحصول على هذه الخبرات.
و ليس خافيا أن جامعات العراق تمنح درجة الماجستير و الدكتوراه في كل العلوم التي سمحت وزارة التعليم العالي للدارسين بنيل شهاداتها العليا في الخارج. فمثلما تمنح دول العالم المتقدم الماجستير و الدكتوراه في الفيزياء، فكذلك فان جامعات العراق تمنح ذات الدرجة في الفيزياء. فلماذا إذا ترى وزارة التعليم العالي أن العراق بحاجة الى نقل خبرات جديدة في الفيزياء من العالم المتقدم و لا تعتقد أن العالم لديه خبرات جديدة في علم الاجتماع و السياسة و علم النفس و التربية و التاريخ و الفنون و الرياضة من المفروض على العراق نقلها؟ أم ان هذه الوزارة ترى في هذه التخصصات جوانب هامشية من حياة الانسان لا تستحق الاولوية في الاهتمام؟
ما غاب عن وعي صاحب القرار في وزارة التعليم العالي أن العراق متخلف جدا في دراسات ما إصطلحت هذه الوزارة عليه بالعلوم الانسانية. و يكفي عرض مثالا واحدا لنقف على هذه الحقيقة الكارثية. فكلية العلوم السياسية في جامعة بغداد تمنح البكلوريوس في العلوم السياسية بعد إنهاء الطالب لاربع سنين دراسية و بعدد من الوحدات العلمية أو ما يسمى بـ (Credit Points) أو (CP) مقداره 80 وحدة. بينما و حسب نظام الدراسة الاوربي الجديد المسمى (Bologna Process) و الذي أقرته 29 دولة أوروبية عام 1999 فان دول الاتحاد الاوربي تمنح البكلوريوس في ستة فصول دراسية أي ما يعادل ثلاث سنوات دراسية (و هي اقل من مدة الدراسة في جامعة بغداد بعام واحد) و لكن و بعدد أعلى من الوحدات العلمية مقداره 120، أي تتفوق جامعات الاتحاد الاوربي بـ 40 وحدة علمية على جامعة بغداد و بمدة دراسية أقصر من مدة الدراسة في هذه الجامعة بعام.
و لا يقتصر وضع بقية الكليات في جميع الجامعات العراقية بتخصصاتها المختلفة عن المثال الكارثي لكلية العلوم السياسية في جامعة بغداد.
لقد غاب عن وعي وزارة التعليم العالي أن هذا العالم المتحضر الذي تفوق على جامعة بغداد بـ (40) (CP) وقلص مدة الدراسة من اربعة الى ثلاث سنين دراسية لم يكن ليستطيع أن يصل الى هذا التفوق العلمي الهائل بدون قاعدة من (العلوم الانسانية) هيأت لتطور جميع العلوم الاخرى. هذه (العلوم الانسانية) من مثل فلسفات (ديكارت، جون لوك، نيتشه، كانت، كارل ماركس و ماكس فيبر) و أشعار (جوته و فولتير) و روايات (شكسبير و مكسيم جوركي) و لوحات (فان كوخ و ليوناردو دافنشي) و سمفونيات (باخ و بيتهوفن). كما غاب عن وعي هذه الوزارة أن العالم المتقدم مازالت جامعاته تعج بطلبة تخصصات (العلوم الانسانية) و بتطور هذه العلوم على يد علماء و باحثين يجهدون أنفسهم لتطويرها. و مازال هذا العالم المتقدم يملك ناصية هذه العلوم (الانسانية) و لم تكن يوما و لم تصبح هذه التخصصات بالنسبة اليه هامشية مطلقا، ذلك لان هذا العالم المتقدم يعي و يعلم جيداً أن المجتمعات البشرية لا يمكن ان تقوم على العمران فقط حتى يستطيع هذا العمران أن يحل مشاكل الانسان و يرقى في تلبية حاجاته و متطلباته، بل يتقدم و يتطور بالحضارة الفلسفية و الفكرية و الفنون بالاساس. و العمران لا يخلق حضارة، بل أن الحضارة هي التي تصنع العمران، لأن الهندسة و الفيزياء و الكيمياء و الطب لا تصنع إنسان، بل إن الانسان هو الذي يصنع هذه العلوم و يطورها.
أما حجة رصانة الجامعات التي سمحت الوزارة بالدراسة فيها و إدعاء أن ذلك هو السبب الذي حدى بها لالغاء الدراسات في الجامعات العربية في الوقت الذي أبقت على إمكانية الدراسة في الجامعات الايرانية فانه غير صحيح و غير واقعي. فصحيح أن أغلب الجامعات العربية لا تضاهي الجامعات الغربية و لكن الجامعات الايرانية هي الاخرى لا تضاهي الجامعات الغربية و متخلفة كصاحباتها العراقيات و العربيات. و لكن هناك جامعات عربية أكثر رصانة من الجامعات الايرانية. فيكفي أن ننظر الى ترتيب جامعة طهران مقارنة بترتيب جامعة القاهرة ضمن قائمة تقييم عالمية (Ranking) قامت بها مؤسسة اسبانية هي:
(Sybermetrics Lab-CSIC, Albasanz, 26-28, 28037 Madrid, Spain).
لنرى أن جامعة طهران جاءت في الترتيب (594) بينما جاءت جامعة القاهرة في الترتيب (299). أي أن جامعة القاهرة أفضل علميا بما يقارب الـ (300) درجة من جامعة طهران.
إن إختيارات أصحاب القرار في وزارة التعليم العالي لمنح مناصب إداراتها التي تعج بالفوضى و التخلف و التعقيد و عدم المهنية و المحسوبية و المنسوبية و المحاصصة السياسية الكارثية، و إختيار رؤساء الجامعات الذي لم يأتي على أساس مهني و علمي، و السياسات التعليمية المتخلفة التي تنتهجها، كل ذلك سيبقي على الكارثة التعليمية في العراق و يعززها، و هذا الذي سوف يعزز بدوره تخلف العراق العلمي و التعليمي في الوقت الذي يتبجح فيه أصحاب القرار في وزارة التعليم العالي و خلافاً للواقع بأنهم قد قفزوا بالعراق الى مصاف الدول المتقدمة.