شكّل الانكليز في اعقاب الحرب العالمية الاولى ما نسمّيها الان الدولة العراقية ، وكما تطلبت مصالحهم السياسية والاقتصادية .وقاموا بنصب الحجازي فيصل الاول ملكا عليها تكريما لوالده ( حسين بن علي ) شريف مكة الذي تحالف مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية المسلمة . لم يكن الامر يعني الكرد ، لولا ان البريطانيين قضوا على المقاومة الكردية للاحتلال الاجنبي ، واودعوا ملك كردستان – الملك محمود الحفيد – في غياهب سجونها ومعتقلاتها . ثم اقتطع الانكليز جنوب كردستان بما فيها العاصمة – الموصل – والحقوها بالدولة العراقية بناءا على التماس من الملك فيصل الذي رأى ان من العسير ان يحكم دولة يشكل الشيعة اغلبية سكانها ، فكان ضمّ الكرد السنة الى العراق فكرة اريد منها اقامة توازن شيعي سني .
لم يأخذ الانكليز رغبة الكرد بالحسبان ، ولم يذعن الكرد للامر الواقع ابدا، وظلّوا يرفضون تقسيم وطنهم والحاقهم بعرب العراق وهم يختلفون عنهم في ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفكيرهم بل حتى في التضاريس الجغرافية . وكما قاوم الكرد الحكومات العراقية المتعاقبة ، لم تدخر هذه الاخيرة جهدا او سلاحا للاعتداء عليهم وقتلهم وتهجيرهم والشروع في ابادتهم عن طريق الاسلحة الكيمياوية ومجازر القتل الجماعي للاطفال والنساء وانفلة المجتمع الكردي حسب اصول الغزوات للقبائل العربية في العصر الجاهلي .
لم تسعف الكرد تضحياتهم الجسام وحروبهم الدموية ، فقد ظل المجتمع الدولي داعما للسلطات العراقية ، يهتم بمصالحه الاقتصادية اكثر من اهتمامه بحقوق الانسان وحريات الشعوب . وتمادى عرب العراق في اعتدائاتهم على الكرد وارتكبوا ضدهم مظالم واهوال مرعبة . صحيح ان الحكام من السنة يعتبرون مسؤولين عن الظلم الذي لحق بالكرد طيلة ما يقارب القرن ، لكن الشيعة ، باعتبارهم قوام الجيش العراقي ووقود حروب الانظمة، كانوا في اغلب الاحوال الة القتل والتدمير للانسان والوطن الكردي . لقد تغافل سنة العراق عن مشاركة الكرد لهم في وقف المد الشيعي على بغداد والعراق طيلة اربعة قرون ، بينما استغل شيعة العراق كراهية حكام السنة للكرد، للانتقام منهم عن احداث تاريخية ايام الصفويين وما بعدها . ففي حين رفضت بعض العشائر العربية السنية الاصيلة التوطين في الاراضي الكردية التي ( أكرم ) بها عليها نظام صدام ، اقامت عشائر شيعية وبدعم البعث وصمت المراجع الشيعية ، مستوطنات لها في كركوك وتأبى مغادرتها حتى اليوم .
بدى ان الفرصة الاولى قد توفرت امام الكرد للخلاص من جحيم العراق بسقوط الدولة العراقية عام 2003 وانكسار جيوشها وماكنتها الحربية ، لكن الكرد لم يستغلوا الفرصة وركنوا الى الوعود والنصائح الامريكية وتعهدات الفرقاء السياسيين العراقيين او فضلوا بعض المناصب والوظائف الهامشية ونصيبا من ثروة العراق على تحقيق اهدافهم المركزية. ووظفت القيادات الكردستانية كل جهودها وخبرتها وقوات البيشمركة لاعادة بناء الدولة العراقية المركزية وجعلها تنتصب على اقدامها متعذرين بدستور لا يحترمه اي فريق . بعد حين تبيَن ان الكرد لم يحسنوا استغلال الفرصة او انهم قد اضاعوها .
ولان الكرد شعب طيب ومتسامح ، فقد غفروا لقياداته، بنائهم عراق جديد قديم لا يختلف عن سابقه الا تغيير ملامح حكامه. وانتظروا فرصة اخرى !
تقرّ اليوم كل القيادات الكردية ، ان الوضع في العراق وازمته الحالية، مع ما تحمله من خطورة ، يشكل فرصة متجددة للكرد . ولا اقصد بازمة العراق الحالية الانتفاضة السنية العارمة ، والتي تطرق ابواب بغداد وتنبئ عن ساعة الحسم داخل جدران الحصن الخضراء. ولا اقصد استغلال التنظيمات الارهابية كراهية السنة للحكم الشيعي .انما ، وكما يقول اغلب المحللين ، ان الازمة تتمثل باصرار وعناد نوري المالكي في البقاء على رأس السلطة .
لقد مزّق المالكي الدولة العراقية اربا اربا ، وقسّمها واقعا الى ثلاثة اجزاء , وافهم الكرد ان مستقبلهم مجهول ، وبعث برسالة الى السنة توضح ان مصيرهم في ظل حكم شيعي مذهبي على كفّ عفريت ، وان عليهم دفع الثمن لمشاركتهم حكم البعث في محاربة ايران لثمان اعوام . وشتّت المالكي البيت الشيعي وضرب تحالفهم . وبددّ اموال العراق في تنظيم جيش طائفي لا يجيد الاّ الهرب مهرولا من ميدان الوغى ، ويفضل قادته الكبار لبس الدشداشة عن مسك الرشاشة . ونشر ميليشيات حاقدة مهمتها بذر الرعب وممارسة القتل على الهوية واغتيال كل من يحمل اسم عمر او عائشة . واستعدى المالكي الدول الجارة مثل تركيا والسعودية والاردن والشعب السوري . واعلم المالكي امريكا ان تضحياتها في العراق ذهبت سدى، وانها قد اهدرت اموالها في تدريب الجيش العراقي وتسليحه ، وبرهن لها ان سياستها فشلت ، وان حديث اوباما عن انتهاء الحرب في العراق اصبح محل تندر، واتته الشماتة من روسيا . واصبح المجتمع الدولي بفضل سياسة المالكي يتحدث عن حريق في العراق وعن دولة تنهار وتزول . واعطى المالكي تأكيدات قوية لمقولة البعث ، والتي كنا نشك فيها ، ( لا يصلح الشيعة للحكم ) .
ولنا ان نتساءل ماذا سيفعل المالكي ان عاد للسلطة؟ لا شك انه يشعر بالهزيمة والعار الذي لحق بقواته ، وانه يتحدث عن مؤامرة اشترك فيها الكرد والسنة وتركيا والسعودية ، ويشعر بالمرارة من مواقف حلفائه داخل التحالف الشيعي ويحس بالحنق تجاه المرجعية الشيعية ، ويعتبر ان امريكا قد خذلته بمنع السلاح عنه .
سيرتمي المالكي نهائيا في احضان سليماني وسيصبح العراق حارة ذليلة لا حول لها ولا قوة ، وسيحاول المالكي قطع اعناق الكرد ( حلفاء اسرائيل) بعد ان قطع الارزاق عنهم، وسيستهدف السنة كأعداء ومتأمرون وارهابيون بالجملة. سيتخذ مواقف متشنجة من دول الجوار وسيسبب في اثارة مشاكل لها . وسينتقم من اقطاب الشيعة ( الحكيم والصدر والجعفري ) لعدم مساندتهم له ، ربما ستهاجم ميليشياته الحوزة والمرجعية ويتعامل مع السيستاني كما تعامل مع الصرخي . بعبارة قصيرة سينحر المالكي الدولة العراقية من الوريد الى الوريد ويمضي بها الى حتفها . فاية مصلحة للكرد في اصرار قيادته على تغيير المالكي ومنعه من السير في خططه لتقسيم العراق وتدميره ؟ اية مصلحة للكرد في اقامة حكومة عراقية اخرى والمشاركة في مؤسساتها بغية تاجيل تمزيق العراق ؟
ليس مطلوبا من القيادات الكردية الجري وراء عناوين وظيفية في حكومة العراق . عليها استغلال تواجد المالكي في سدة الحكم وهو اضعف ما يكون، واتخاذ ذلك فرصة ان تعذر استغلالها لاعلان دولة كردستان مستقلة والخروج من الجحيم ، فعلى اقل تقدير ينبغي استثمارها لاعادة تحديد علاقة الاقليم بالمركز ، بما يوفر للاقليم اولا- استقلالا اقتصاديا ذاتيا وناجزا . ثانيا- حماية من اي اعتداء عسكري بضمانة دولية واممية . ثالثا – ان يكون للاقليم الهيمنة السياسية على شعبه بمعزل عن بغداد . رابعا – ان يكون للاقليم حصته من ثروة العراق ولضمان ذلك يكون للكتلة الكردستانية في البرلمان العراقي حق الفيتو على مشروعات القوانين ومن ضمنها قانون الموازنة .خامسا – الاعتماد على نتائج الانتخابات الاخيرة في تقرير مصير كركوك والمناطق الكردستانية الاخرى المحررة حديثا وضمها للاقليم ولحين اجراء استفتاء باشراف دولي.
اما الاصرار على تغيير المالكي وحكمه الهزيل الايل للسقوط ، وتجربة وجوه اخرى والتحري عن نواياهم والكشف عنها لاعوام اخرى، واشغال بعض السياسيين الكرد بمناصب فارغة المحتوى في بغداد ، فلا يعبر عن حنكة سياسية ، لان ذلك يوحي للمجتمع الدولي ان الكرد قد اختاروا البقاء ضمن دولة العراق وهذا خلاف الواقع والطموحات المشروعة .