23 ديسمبر، 2024 7:57 م

فضائياتنا العراقية….

فضائياتنا العراقية….

المعروف ان الفضائيات اليوم –المفروض- وسيلة مهمة في التنمية وتملك القدرة بحكم خصائصها في التأثير على المشساهد أكثر من اي وسيلة اعلامية اخرى… هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان، وقد اثبتت ابحاث الاتصال الميدانية هذه الحقيقة.

ولكن بدراسة متأنية لواقع هذه الفضائيات وتحليل مضمونها ولا سيما العراقية منها، نجد انها اصبحت وسيلة تخريب واعاقة اكثر منها وسيلة تنوير وبناء..

لقد فقدت فضائياتنا العراقية بكل أسف مكانتها كأداة فعالة في صناعة عقل المشاهد وتكييف اتجاهاته الذوقية والفنية وحتى الفكرية والتنموية… بل صارت تشكل الى حد ما، عامل هدم للثقافة والمضامين الاجتماعية الوطنية. فبرامجها سواء الاعلامية او التثقيفية او الترفيهية وحتى التوجيهية… بعيدة عن الارتقاء الى مستوى متطلبات المرحلة التي يمر بها شعبنا في الوقت الحاضر، وان هناك ادراكاً واضحاً لدى غالبية المشاهدين لهذا الضعف الذي يتضح بجلاء حال استبيان اراء العديد منهم على مختلف مستوياتهم المعرفية حول العديد من البرامج… مما يدفع الاغلبية منهم للبحث عن بديل اكثر اثارة وجرأة وفائدة في الطرح والعرض.

وتأسيساً على ما تقدم، فأن المشكلة هنا لا تكمن في الفضائية كوسيلة اتصال عصرية ولكن استثمار هذه الوسيلة هو مكمن السؤال.

ففضائياتنا لم تكتف بأخذ الوسيلة ولكنها اخذتها مع مضمونها، ولم تصنع مضموناً من خصائص مجتمعها الثقافية والاجتماعية وحاجاته وطموحاته كما يجب ان يكون، فأستقدمت الوسيلة من العالم المتقدم المتحضر كما استقدمت معها المضمون.

ان المضمون الفضائي ليس مضمون اداري صرف وانما هو مضمون عقلي ونفسي يتعامل مع الانسان بكل جوانبه النفسية والاجتماعية والفكرية وحتى المذهبية المعقدة لرفع مستوى وعيه الوطني.

وبذلك يشترط بالعاملين في ادارة الفضائيات العراقية ان يتمتعوا بوعي فكري علمي ناقد وعميق –وهذا مفقود عندهم بالكامل وبدون استثناء – فلابد من ثقافة نفسية واسعة وفهم دقيق لطبيعة المجتمع وتكوينه الطبقي والفكري والنفسي وبنيته العقلية، وتحديد واضح للاهداف التي يتوخاها النشاط الفضائي وبرمجة واعية للاساليب التي تحقق هذه الاهداف.

واذا ادركنا، ان التطور سبق وجود الوسيلة –التلفاز الفضائي- لهذا كان استخدامها في ذلك العالم لاغراض الترفيه هو الاكثر بروزاً – طبعاً مع عدم اهمال الاغراض الاخرى كمصدر للمعلومة والمعرفة والبناء وتكييف الاتجاه الفكري… الا انه فيما يبدو ان عنصر الترفيه كان الاكثر اجتذاباً لتلفازنا –فضائياتنا – عندما اقدم على استخدام هذا الجهاز، فأصبح الترفيه على علاته، هو المادة الاساسية في المضمون وبشكل ومحتوى فج. اضف الى ذلك، ان ضعف المقدرة على صناعة المضمون محلياً جعل هذا الجهاز منفذاً اساسياً للغزو الثقافي، وذلك عن طريق استيراد المحتوى/ المضمون، وهنا تكمن الخطورة!!

وتأسيساً على هذا الفهم… يجعلني اعتبر فضائياتنا احد معوقات التنمية الشاملة بكافة جوانبها… وربما انا هنا قد اخالف كل النظريات والنتائج العلمية التي تثبت ان الفضائية هذه الوسيلة العصرية، هي وسيلة اعلام فعالة ومؤثرة في البناء والوعي الاجتماعي ونشر المعرفة كأساس للتنمية الوطنية الشاملة.

انا على يقين من ان هناك من يتفق معي تماماً فيما ذهبت اليه، اذا اخذنا الواقع الحالي لفضائياتنا في الاعتبار، وهو واقع لا يعيق التنمية الوطنية فقط ولكنه قد يؤدي بما يعرضه من محتوى الى تغريب الذهنية العراقية من ناحية واضعاف القيم من ناحية اخرى، الامر الذي يدعونا الى التنبيه الى واقع فضائياتنا والتحذير مما قد تسببه من تصدع في بنية مجتمعاتنا، هذا اذا اخذنا في الحسبان مقدار الوعي البائس او المعدوم الذي يتمتع به اغلب افراد مجتمعنا فتصبح هذه الفضائيات وبأستخدامنا عن قناعة تامة نتيجة جهلنا الكامل او ضحالة معرفتنا، وسيلة هدم وتخريب لا تنوير وبناء…

لقد اثبتت اكثر الدراسات التخصصية، بأن الوسيلة الاعلامية الفضائية كغيرها من معطيات تقنية هذا العصر، نقلت الى الدول النامية والعراق احداها، كمظهر حضاري اكثر من اي شيء آخر، وبحكم حداثة هذه الوسيلة لم تكلف بعض هذه الدول- ومنها العراق- نفسها عناء التفكير لبناء مفهوم خالص يتفق مع الواقع العقائدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتعليمي لها بهدف تحديد مسار الوسيلة لخدمة الواقع، لكنها وبكل أسف اهتمت بالوسيلة ولم تهتم بالمضمون ولم يحالفها التوفيق في التعامل معها التعامل الصحيح الذي يخدم الغرض من وجودها، فجاء المضمون فقير لا يستجيب للرغبة العميقة لدى المشاهدين خصوصاً في الاطلاع على تفاصيل ما يجري حولهم ولا سيما فيما يخص واقعهم السياسي والاقتصادي نتيجة اساليب العرض الساذج الذي تغلب عليها العبارات الطنانة والقوالب الانشائية الجاهزة دون مضمون واضح ومعلومات تحليلية جديدة..

ومن هنا، يمكن اعتبار فضائياتنا وسيلة سلبية اكثر منها وسيلة ايجابية، وذلك نتيجة ما تسببه من اضعاف للقيم والمضامين الاجتماعية لأختلاف المضمون مع الواقع للمجتمع، وكذلك زيادة السلبية لدى المتلقي نتيجة لكثافة برامج الترفيه للترفيه… بالاضافة الى ان فضائياتنا اصبحت بغير قصد نافدة للغزو الثقافي والفني.. نتيجة لنقل المادة المعروضة والتي اغلبها انتاج اجنبي، اضف الى ذلك اهدار طاقة الشباب لاضاعة اوقاتهم –التي هي بالاساس ضائعة – امام الشاشة خاصة بين اولئك قليلي التعليم والثقافة الذين يفقدون قدرة التأهيل لانتقاء برامجهم وهم كثرة عندنا نتيجة لعدم فاعلية تعليمنا الاولي و الجامعي.
واذا كان غياب الكوادر العلمية الواعية المؤهلة غير الحرفية، احد الاسباب الرئيسية التي ادت الى عدم استثمار فضائياتنا الاستثمار الصحيح، فأن مثل هذا الغياب لا يجب ان يطول فيما اذا اريد تصحيح المسار خدمة للوطن، خاصة، في هذا الظرف الراهن.

ان اغلب بلدان العالم النامي، كان جهدها متجهاً للسيطرة على وسائل الاعلام بأعتبارها الادوات المعبرة عن حقيقة الاستقلال…. فقد ادركت معظم هذه الدول اهميته وخطورة الفضائيات كوسيلة للاتصال بالجماهير، كان باستطاعتهم ان يستخدموه لتأكيد صورهم لدى الجماهير وتحويل اشخاصهم الى رموز تلتف حولها أماني وآمالي شعوبهم ومن ثم يمكنهم استخدام هذه الوسيلة الخطيرة التأثير الباهظة التكاليف كأداة من ادوات التنمية الشاملة التي هي هدفهم الاجتماعي بعد تحقيق التحرير السياسي، لانهم ادركوا ان الاهتمام بأمر الفضائيات وبرامجها ليس قضية كمالية ثانوية وانما هي قضية خطيرة في الحياة يجب ان تدخل في صميم اهتمام المسؤولين والصحافة والمثقفين وكل المواطنين سواء من خلال الاراء الفردية التي يمكن ان يبدوها حول هذا الموضوع او من خلال منظماتهم المهنية والنقابية التي يجب ان تدلي بدلوها فيه وتبلور ما لدى منتسبيها من اراء.

ان دراسة واقع فضائياتنا اصبحت ضرورة ملحة ويمكن ان يكون ذلك بدراسة الواقع العام ووضع الحلول المناسبة من قبل متخصصين مؤهلين ولعل هذا يكون بداية التصحيح.

ان واقع فضائياتنا بحاجة ماسة الى نظرة علمية رصينة بهدف تحديد مسارها للاستثمار الافضل والاستخدام الصحيح في البناء التنموي قبل ان يصبح الوقت متأخراً…. وهذه ليست دعوة الى حشد هذه الوسيلة الاعلامية بالمواد الارشادية والتعليمية والخطابية الجوفاء المباشرة لكنها دعوة الى صناعة مضمون يملك عوامل الجذب والشد وفقاً لاهداف البناء حتى في الترفيه…
وهذا لن يتم ما لم يتغير المفهوم السائد عن الجهاز نحو مفاهيم تخدم اهدافنا الوطنية والاجتماعية.

*[email protected]