23 ديسمبر، 2024 8:40 م

العنف بين الدين والسياسة

العنف بين الدين والسياسة

إن العنف أكثر منابع اللاتسامح شدة ,ومن ثمة صعوبة في السيطرة عليه والحد منه, وان العنف ظاهرة قديمة ومعقدة ومركبة, وقد ارتبطت هذه الظاهرة بالاجتماع الإنساني في كافة مراحله وأطواره القديمة والحديثة والمعاصرة، في مختلف التقسيمات الأخرى التي وضعتها العلوم الاجتماعية والإنسانية لتطور وتحول الاجتماع الإنساني, ومهما تعددت وتباينت الملامح والمكونات الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الاجتماع الإنساني، ومهما اختلفت وتباينت الملامح والمستويات المدنية والحضارية.

العنف بلا شك هو عقبة وعائق أمام التسامح بل أن مجرد وجوده في المجتمع يعني انتفاء التسامح انتفاءاً كاملاً، فما أن يوجد أحدهما حتى ينفي وجود الآخر, على أن تاريخ الإنسانية وكأنه يطابق السلطة العنيفة، وفي أقصى حد، ليست المؤسسة هي التي تشرع العنف، بل هو العنف الذي ينشئ المؤسسة، بإعادته توزيع القوة بين الدول والطبقات.

قبل الشروع في العنف علينا أن نسأل : ما هو العنف ؟ وما هي أنواعه ؟ وكيف يمكن الحد منه؟ وهل يوجد عنفٌ إيجابي ؟ وهل العنف الذي فيه دفاع عن الحقوق ينطبق عليه هذا المعنى أي الإيجابي ؟. إن المرادف اللفظي للعنف في اللغة اللاتينية هو ( Violehce) وهو في الأصل مفهوم فلسفي يعني القسر، في مقابل ( Nature) أو ( Natural) وتعني الطبع أو الطبيعي .ففي طبيعيات أرسطو هناك نوعان من الحركة ، الحركة الطبعية ، والحركة القسرية ( إللا طبعية )… إن حركة الشمس حول الأرض عند الأقدمين حركة طبعية ، ومثلها حركة الحجر الساقط من مكان مرتفع ، بينما يعدونّ حركة الدخان للأعلى حركة قسرية، لأنها ضد مقتضى الطبع والمسار الطبيعي للأشياء, والعنف ذلك المانع من انسياب الطبع الإنساني والحركة الحرة الطبيعية للفرد، هذا على المستوى الفردي, أما على المستوى الاجتماعي، فالعنف ذلك الشيء الذي يعرقل حركة المجتمع ومساراته الطبيعية, ومعنى ذلك فانه حدث عارض في المجتمع وليس من طبيعته.

إن هذا التصور للعنف اختلف كثيراً عن المعنى الحالي له، مع بقاء بعض المضامين التي يمكن أن تكون جوهرية قد بقيت ثابتة، والعنف حالة عارضة في المجتمع، ومهما طال بقاؤها فأن مصيرها الزوال, واختلفت التعريفات التي عرف فيها العنف على أساس المجالات الإنسانية المختلفة .

فيعرف العنف عادة ” بأنه إلحاق الأذى والضرر بكائن أو مجموعة بشرية، بحيث يكون هذا الضرر إما مادياً، وإما جسمياً، وإما نفسياً، وإما معنوياً بوسائل مختلفة تسبب للمتلقي، أو المتلقين آلاماً وخسائر متفاوتة. فقد يكون هذا الضرر نزعاً لممتلكات مادية أو تعذيباً جسمياً، أو اهانة نفسية، أو نزعاً للممتلكات المعنوية أو الرمزية ، وغيرها من أشكال الضرر التي تبسط على سلم عريض من الدرجات، وكل نوع من هذه الأنواع يتضمن درجة لا حصر لها، فالتعذيب الجسمي يمكن أن يبدأ
بالتهديد والمساومة، ماراً بالتجويع والجرح والضرب والكسر والقتل، وكذا الإسكات والإقحام والتكذيب والسب واللعن”.

ويعرف علماء النفس العنف على أنه ” سلوك عدواني له دوافعه النفسية الغريزية أو المكتسبة، الغريزية كالغضب والانفعال، والمكتسبة وهي تلك المؤثرات المتراكمة التي يتعرض لها الفرد داخل بيئته الأسرية أو بيئته الاجتماعية، فالإنسان الذي يتعرض إلى العنف باستمرار ويعيش في بيئة يمارس فيها العنف تكون له قابلية أكبر في أن يصدر منه سلوك عنيف “

إن العنف يتخذ أشكالاً متعددة ، ولكن كيف يمكن النظر إلى هذه الأشكال ؟بالرغم من اختلاف آلياتها وأدواتها. ويمكن أن نقسم العنف على حسب الجهة التي يصدر منها أو المجال الذي يكون فيه أو الأفكار التي تحركه وتسوغه أو الدوافع التي تسببه,( فتارة يقسم بحسب صورته العامة، ومن هذه الجهة يقسم العنف على ثلاثة أقسام : العنف الصادر عن الأفراد، والعنف الصادر عن الجماعات، والعنف الصادر عن الحكومات)، وتارة يقسم بحسب مجاله، ومن هذه الجهة يقسم العنف على أقسام عديدة، منها العنف الاجتماعي، كالعنف الذي يمارس ضد المرأة مثلاً، ومنها العنف الاقتصادي كعنف الجرائم المنظمة الذي ينطلق بسبب دوافع مالية وتجارية، ومنها العنف الثقافي، كالعنف الذي يمارس بسبب حرية التعبير ومنها العنف السياسي الذي يمارس بسبب المطالبة بالحريات العامة.

وفي علم الاجتماع أتخذ العنف أشكالاً متعددة وفي هذا يمكن أن نقسم العنف على صنفين رئيسين ايضا :- العنف الصامت, صراع الأبناء مع الآباء, الصراع الطبقي، أشكال السياسة القهرية …الخ كذلك العنف العيني، وهو سلوك إيذائي مادي قوامه إنكار الآخر ورفضه وتحويله إلى سيء.

إن تاريخ البشرية شهد العنف العيني من خلال الحروب والصراعات الداخلية للدولة، وفي أكثر سماتها، حتى صار كأنه صفة ثابتة للدولة, رغم الكوابح الأخلاقية، والمثل والقيم الدينية، التي تستهدف كف العدوانية، فأن تاريخ البشرية تاريخ دموي مملوء بالفظائع والمنازعات والحروب … ولعله ليس هناك شيء مضاد للطبيعة البشرية مثلما هو الحب والمحبة، فكل الجهود التي بذلتها الحضارة باسم الحب لم تفلح في نزع فتيل العدوانية والعنف البشريين.

نعم لا يمكن أن نقول إن الحضارة قد حدت العنف وأعماله تماماً ولكنها حاولت الحد منه كثيراً، وفي هذا وصلت إلى درجة معينة من فرض أجواء الأمن والسلام.

وقد تشترك مع العنف مفاهيم كثيرة فلابد من تمييزها عن هذا المفهوم أي مفهوم العنف، هذه المفاهيم كالإرهاب، والجهاد، والمقاومة, وهذه لا تكون مفاهيم مستقلة، بقدر ما هي صفة أو لون من ألوان العنف.

أن مفهوم المقاومة الذي لم يحدد ، ولم يُرسم له حد خاص به فيكون في كثير من الأحيان إرهاباً ، وهذه صفة أكثر الجماعات الإرهابية الموجودة الآن في العالم, عادة ما تلجأ حركات العنف لاستعمال مصطلح الجهاد المشبع بالرمزية الدينية والمشروعية الأخلاقية لوصف أفعالها، وهذا في الغالب لا يكون من باب التوظيف أو الاستثمار الواعي، وإنما ينشأ ذلك من الخلط بين الجهاد والعنف على المستوى المفهومي لاعتبارات مركبة ومعقدة، تتداخل فيها الاعتبارات والتفاسير الدينية مع البيئة الاجتماعية والسياسية، وعنوان الجهاد في هذه الحالة يوفر مشروعية ذاتية للجماعة تقنع بها نفسها بمشروعية تلك الأفعال, ولاسيماً أنها منغلقة على ذاتها مندمجة في نظام أيديولوجي متطرف يرفض الآخر ويرفض الاعتراف به، من خلال تعاليم خاصة بالجماعة، هذه التعاليم لا يمكن النقاش فيها ولا
أحد يتجرأ على نقدها، فضلاً عن الإيمان المطلق بها ,وان ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوين الديني والأيديولوجي عند الجماعات التي تنغلق على نمط من التعليم لا يمتلك القدرة على التواصل مع العصر، ويقطع الصلة بثقافات العالم ومعارفه، ومن ثم لا يكتسب القدرة على التكيف والاندماج مع الآخر المختلف معه ثقافياً أو سياسياً أو حتى دينياً. فهذه القطيعة والانغلاق قد تدفع بعض الجماعات إلى التصادم مع الآخرين، وعدم القدرة على التعايش معهم، التصادم الذي يمكن له أن يتطور في أي وقت إلى حالة من العنف.

توجد عدة وسائل في تغيير وجهات النظر، أهمها الإقناع وله أثر إيجابي في تفعيل التسامح، على العكس من الترهيب والترغيب الذي يعمل على إسكات الآخر بالدرجة الأولى وليس على تغيير وجهات النظر وأنه يصب سلباً في مجرى التسامح.

أننا نرى العنف الديني هو أشد أنواع العنف وهو أخطر بكثير من العنف السياسي؛ لأنه يمارس كل أعمال العنف باسم الدين ، وأنه لا يقبل الحوار في كثير من الأحيان، على العكس من العنف السياسي، الذي يمكن حله عن طريق الحوار والتقريب في وجهات النظر .

وبذلك أختلف علماء السياسة في وصف العنف بأنه ظاهرة سياسية ترتبط بمفهوم السلطة من حيث التأثير عليها، أو من حيث العمل للوصول إليها.. وقد اختلفت الوسائل في الحصول على السلطة سواء أعن طريق استخدام العنف، أم عن طرق أخرى أكثر ديمقراطية يكون فيها المجال واسعاً لحرية الإرادة في الحق السياسي واختيار من ينوب عنهم أو يمثلهم في السلطة السياسية, إن العنف لا يظهر في المجتمعات الديمقراطية، أو التي تلتزم بحكم القانون والدستور وتحترم الحريات العامة وتدافع عن حقوق الإنسان، وحتى لو ظهر العنف في هذه المجتمعات فأنه لا يستطيع أن يبقى أو يكتسب تأييداً وشرعية ، أو حتى يمتلك القدرة على التأثير، لهذا سرعان ما يتلاشى العنف في هذه المجتمعات ، وهذا يعني أن العنف يظهر في المجتمعات الاستبدادية التي لا تلتزم بحكم القانون والدستور، وتعاني من الانسداد السياسي، الوضع الذي يسهم في خلق نزعات العنف عند بعض الجماعات.

ولكن طريقة الاستخدام هي التي اختلفت مع اختلاف الجماعات السياسية، وتطور الأدوات في استخدام العنف، وتعدد أنواع العنف السياسي, ويصل العنف السياسي، على المستوى المحلي أحياناً، إلى درجة الثورة التي تقضي على السلالات الحاكمة والطغاة, ويصغر في أوقات أخرى إلى مستوى الشغب المحلي، أو يقتصر على مؤامرة في القصر, إلا أن الثورة إذا فشلت أو نجحت يمكن أن تحدد طبيعة العنف، فالعنف السياسي يكون ثورة إذا قلب نظام السلطة القائمة وتربع على عرشها كما حدث في روسيا عام 1917 م ، وقد يصبح أيضاً إرهاباً إذا فشل كما حدث في دول لأمريكا اللاتينية .

فالعنف السياسي يتحدد بصورة كبيرة من خلال استعمال القوة أو عدم استعمالها في الوصول إلى السلطة، فأكثر المجتمعات التي يحدث فيها العنف هي التي يكون انتقال السلطة فيها بطريقة عشوائية , إن من أوجه التسامح وأكبر المؤشرات له هو تداول السلطة، وانتقالها بيسر؛ لأن المجتمع الذي ليس فيه تداول سلمي للسلطة، وليس فيه تعدد فيمن يستلم السلطة ليس مجتمعاً متسامحاً بالمعنى السياسي الذي نرمي إليه.

إن العنف ملازم لكل نظام سياسي ولكل كائن بشري ويذهب أصحاب هذا الرأي إلي القول: لا خيار لنا بين الطهارة والعنف، بل بين أشكال شتى من العنف، فالعنف هو نصيبنا طالما نحد متجسدون…وإذا كنا ندين كل عنف، فأننا نضع أنفسنا خارج المجال الذي يقع فيه العدل والظلم، أي خارج المجالالبشري. في السياسة لا جدال في العنف، فهو لا يقبل انفصالاً عن كل عمل سياسي، بالعنف دافع الفاشيون عن الأمن والنظام، والماركسيون عن العدل الاجتماعي والليبراليون عن ليبراليتهم, على أن كل نظام من هذه الأنظمة أستخدم العنف، سواء أكان غاية في ذاته، أم تحقيق هدف معين, حيث كلاً منهما له أيديولوجيات، وفلسفات مختلفة عن طريق المفكرين والفلاسفة الذين تصب فلسفاتهم وأفكارهم في العنف, إذن لا يمكن مواجهة العنف والحد منه إلا من خلال تشخيص الحالات التي يحدث فيها العنف واستخدام السلاح كلغة بين الأطراف المتخاصمة.