70 عاما على اقامة العلاقات العراقية – الروسية
هذه هي الحلقة الثامنة من سلسلة مقالاتي عن تاريخ العلاقات العراقية – السوفيتية لمناسبة الذكرى السبعين على اقامتها . حدث ذلك في اواسط سبعينيات القرن العشرين في بغداد , حيث استدعاني عميد كلية الاداب في جامعة بغداد المرحوم الاستاذ الدكتورنوري القيسي واخبرني بان العمادة رشحتني لترجمة المفاوضات العراقية – السوفيتية , والتي ستجري في بناية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , ولم استطع التخلص من هذه المهمة الصعبة رغم محاولتي الاعتذار عن القيام بها , وهكذا التحقت بالوزارة المذكورة , وكان رئيس الوفد العراقي الدكتور فوزي محمد سامي وهو المدير العام في الوزارة المذكورة , اما رئيس الوفد السوفيتي فكان السفير السوفيتي نفسه آنذاك , وكان الوفد العراقي يضم عدة اعضاء منهم الدكتور تحسين معلة الشخصية البعثية المعروفة ( وكان آنذاك عميدا لكلية الطب في جامعة بغداد ويحل بمكان رئيس الجامعة عند غيابه ), اما الوفد السوفيتي فكان ايضا يضم عدة اعضاء ابرزهم السيد سوخين مدير عام في وزارة التعليم العالي السوفيتية ومسؤول دراسة الاجانب في الاتحاد السوفيتي آنذاك, وهو شخصية معروفة للعراقيين الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي منذ الستينيات , واذكر ان بعض اعضاء الوفد العراقي كانوا يتهامسون فيما بينهم وهم يشيرون خفية اليه.
ابتدأت المفاوضات حول بعض الامور الروتينية ووصلت الى موضوع تعادل الشهادات السوفيتية في العراق , وهنا انبرى الحاج خميس العاني عضو الوفد العراقي ومندوب وزارة التربية العراقية وقال انه لا يعترف بمعادلة الشهادة الثانوية السوفيتية في العراق ويعتبرها اقل من الثانوية
العراقية , لأن الفترة التي يقضيها التلميذ السوفيتي هي 11 سنة دراسية بينما يقضي التلميذ العراقي 12 سنة , وعليه فانه يقترح ان يكون التلميذ الروسي طالبا في الصف الاول من الجامعة كي يعترف بشهادته الثانوية وكونها معادلة في العراق للثانوية العراقية ,و خلق هذا الطرح من قبل الحاج خميس العاني جوا متلبدا ومكهربا في مسيرة المفاوضات , واعترض سوخين على هذا الطرح , وقال انه من المعروف ان المدرسة السوفيتية تبدأ الدراسة وبانتظام منذ الاول من ايلول / سبتمبر , وحتى اواسط حزيران / يونيو وان ايام العطل اقل بكثير من ايام العطل العراقية وان العد النهائي للزمن الذي يدرس فيه التلميذ السوفيتي في نهاية المطاف يكون حتى في صالح المدرسة السوفيتية وليس العراقية , وان هذه المقارنة الساذجة تتعارض مع مبدأ التعادل العلمي الصحيح, الذي يجب ان يعتمد على المناهج المعتمدة قبل كل شئ , وبشكل عام فان مدارس معظم دول العالم معادلة بعضها للبعض بغض النظر عن هذه التفاصيل الصغيرة هنا وهناك . اقتنع الوفد العراقي بمنطق الجانب السوفيتي الذي طرحه سوخين , الا ان الحاج خميس العاني رفض ذلك رفضا قاطعا وأصر على موقفه السابق , وقد حاول اعضاء الوفد العراقي اقناعه ولكن دون جدوى , مما اثار سخرية الحاضرين من العراقيين والسوفيت بشكل عام , وهكذا وافق الجانب العراقي – رغم موقف الحاج خميس العاني – على معادلة الشهادتين , ولكن كل هذه الطروحات والمناقشات قد خلقت اجواء متوترة بالطبع , ثم انتقل المجتمعون الى النقطة الاساسية لكل هذه المفاوضات وهي معادلة الشهادات السوفيتية للدراسات الاولية , والتي كانت تمتد خمس سنوات او اكثر – حسب الاختصاصات – بعد السنة التحضيرية الخاصة بدراسة اللغة الروسية , اي ان مدة الدراسة تكون ست سنوات او اكثر , وكانت الجامعات السوفيتية تمنح شهادة الماجستير للمتخرجين الاجانب كافة , بما فيهم بالطبع العراقيين , الا ان الجانب العراقي رفض الاعتراف بهذه الشهادات باعتبارها شهادة ماجستير واعتبرها شهادة اولية جامعية ليس الا , اي بكالوريوس وليس ماجستير , واعتبر شهادة الكانديدات السوفيتية هي الماجستير وليس شهادة دكتوراه , وقد خاض العراقيون من حملة تلك الشهادة نضالا طويلا ومريرا جدا من اجل الاعتراف بشهادتهم هذه باعتبارها معادلة للدكتوراه عالميا , وقد استطاعوا فعلا معادلتها بعد جهد جهيد كما يقال , وعلى هذا الاساس , انطلق الوفد السوفيتي من موقفه لمعادلة الشهادة السوفيتية الاولية بالماجستير, ولكن الجانب العراقي رفض الطرح السوفيتي حول ذلك رفضا قاطعا , و تصدى الدكتور تحسين معلة للوفد السوفيتي ولسوخين بالذات , وطرح موقف الجانب العراقي حول ذلك , وبما ان الدكتور معلة كان طبيبا , فانه بدأ بالتهجم الشديد على الدراسات الطبية في الاتحاد السوفيتي , وقارنها بالدراسات الطبية الاخرى , بما فيها العراق , واعتبر ان مستواها اوطأ , وقد ادى هذا الكلام بالطبع الى توتر اشد في اجواء المفاوضات, وهنا اجاب سوخين , ان العالم الغربي يعترف بذلك , فكيف يرفض العراق الاعتراف , فاجابه معلة , ان العراق لن يعترف بذلك حتى اذا اعترف الغرب بهذا , وهنا اخذ سوخين يتكلم عن المستوى الصحي في الاتحاد السوفيتي , وقال ان هذا المستوى المعروف قد جاء نتيجة لمستوى التعليم الطبي في الاتحاد السوفيتي, وان المستوى الصحي في العراق معروف ايضا , وهو ايضا نتيجة المستوى العلمي في العراق, وان الفرق الشاسع بين المستويين هو الذي يشير الى مستوى الدراسات في البلدين . توتر جو المفاوضات جدا , واعتبر الدكتور معلة ان سوخين يهين التعليم العالي في العراق , واعلن رئيس الوفد العراقي ان العراق لن يوقع اتفاقية تعادل الشهادات بين الجانبين , وهكذا انتهت المفاوضات باصدار محضر جلسة ليس الا عن تلك الجلسات الطويلة من المناقشات بين الجانبين , وفعلا اوصل الدكتور معلة هذه المعلومات الى الجهات العليا العراقية , اذ لم يمر وقت طويل , واذا بالحكومة السوفيتية تنقل سوخين الى منصب آخر , وكلفته بتاسيس معهد خاص باللغة الروسية ( وهو المعهد المعروف الان باسم معهد بوشكين للغة الروسية ) , ويقولون , والعهدة على الراوي كما يقال, ان تحسين معلة اوصل تلك الاخبار الى الرئيس العراقي احمد حسن البكر ,الذي كانت له علاقة قريبة معه, وقد
اشار د. معلة فعلا الى رغبته بذلك بعد الجلسة تلك , وان احمد حسن البكر طلب من عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي ( كان حليف حزب البعث آنذاك ) ايصال هذه المعلومة الى الجانب السوفيتي وعلى اعلى المستويات , وان هذا الجانب قرر- بعد ان اوصل عزيز محمد تلك الشكوى – نقل سوخين واخراجه من منصبه الذي شغله لفترة طويلة وكان ناجحا فيه وذلك في محاولة لتسوية الخلافات مع العراق, والتي حدثت اثناء تلك المفاوضات , وان الجانب العراقي كان راضيا على هذا الاجراء السوفيتي ولم يطرح موضوع اهانة التعليم العالي العراقي كما طرح الموضوع الدكتور معلة آنذاك وانما اغلق الموضوع ليس الا . هذا وقد التقيت السيد سوخين مرة في موسكو عندما كنت في زيارة لمعهد بوشكين للغة الروسية , ولكني لم اسأله بالطبع عن اسباب نقله لان الموضوع حساس جدا , واذكر انه سألني عن اخبار الدكتور فوزي رئيس الوفد العراقي آنذاك , فاجبته بانه بروفيسورمعروف في جامعة بغداد , وتأسفت بعدئذ– خصوصا عندما سمعت بخبر وفاة سوخين – لاني لم اسأله حول ذلك , اذ كان من المحتمل معرفة الاسباب الحقيقية لنقله .