مقامة الخطو وحيدا

مقامة الخطو وحيدا

استحضر مجلس صالون الدكتور تحسين طه أفندي اليوم عبارة الشاعر العراقي سعدي يوسف (( أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي )) , وهي جزء من قصيدة للشاعر تعبر عن التفرد والوحدة في مسيرة الحياة رغم الانخراط في حياة الآخرين والمجتمع , وهي تعكس شاعرية الشاعر وإحساسه بالعزلة الداخلية وسط الزحام , حيث يراقب العالم من مسافة , ويلهو بمسيرته الشعرية الخاصة, و تفسر العبارة التناقض الظاهري فهي تجمع بين شيئين متناقضين : (( المشي مع الجميع )) , أي الوجود في مجتمع والاندماج مع الناس , و(( خطوتي وحدي )) أي الشعور بالعزلة والخصوصية في المسيرة , فرغم محبة الشاعر للجميع والاندماج الاجتماعي , يظل لديه عالم داخلي خاص به , ويستطيع أن يراقب العالم واللغة والزمن من موقع التفرد, كما تعكس العبارة أيضاً قدرة الشاعر على الاعتماد على نفسه في مسيرته , وعدم الحاجة إلى الآخرين لتوجيه خطاه أو تحديد مساره , وقد استخدم سعدي يوسف هذه العبارة كصورة شعرية ليعبرعن حالته كشاعر في مسيرته الإبداعية والفكرية , وهي صورة تترجم ما كان يعيشه من تجارب ودراسات, و تعكس العبارة استقلالية الشاعر وقدرته على تكوين رؤيته الخاصة عن العالم من حوله , بأختصار, العبارة تعبر عن رحلة حياة يقوم بها الشاعر مع الآخرين , ولكن بشكل مستقل , محافظاً على خصوصية ذاته وعالمه الداخلي وسط الحياة الاجتماعية.

أثار سعدي يوسف الشاعر العراقي الذي رحل في لندن عن 87 عاماً , والذي أوصى بجنازةٍ بلا مشيّعين , أسئلة وإشكالات كثيرة , فهل كان موقف سعدي يوسف المعارض للاحتلال , موقفاً عادياً وعابراً , أم أنه الموقف الوطني الموضوعي والأساسي والثقافي الصحيح والمطلوب؟ ولا أظن أن شاعرا عربيا قد بنى الصورة الشعرية كما بناها وأقامها سعدي يوسف , كما ان التصاقه بالشعب لم يدفعه إلى تمجيد أبطال حزبه الشيوعي كما فعل كثيرون , ولا مكان للزعيم الأوحد في شعره , لقد اجترح لغة رشيقة خفيفة , على الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر, متجاوزاً كلّ قديم , لقد اقترب من الناس والحياة كما يهوى , وأنصت عميقاً إلى ذاته , أكثر من ستين عاماً من الشعر والثقافة والسياسة والسفر والترحال والمنفى الدائمي والخيارات الصعبة والحساسة في كل شيء , ومن ثم التجربة السياسية الأخيرة , والموقف الوطني الصارم من الاحتلال , وقضايا الخلاف والاختلاف والمناكفات والنقد الحاد والجارح والعزل المبيت والصراعات ورذاذ الشتائم المتطاير و(الهرطقات السياسية والشخصية) ولغتها الخاصة والمتعبة , الحاصل , إن سعدي يوسف الشاعر بيننا , بما له , وما لنا منه أو (ما نلنا منه من شعر) , يقف بيننا ومعنا , أو كما قال هو (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي) , يدقق ويلعب ويطلق قصائده وموسيقاه الداخلية ولغته وتجاربه , ويحقق التجاوز , ويلهو بعزلته الأثيرة , حيث يراقب منها العالم والطبيعة واللغة والزمن , بدهشة شاعر , وينجو من الرتابة والخمول والجمود , ويقيم علاقته مع القصيدة والكلمة والريح والشجر والماء , ويثير الجدل المتواتر, وغباره في أحيان كثيرة , ويطلق طيراً أو ديواناً ً للناس والشعر, لقد كانت أبرز تجارب سعدي يوسف , بعد الشعر طبعاً , ممارسة الحرية بلا حدود .

تقوم العبارة على جزأين متوازيين يعبران عن فن التوازن بين الانخراط في المجتمع والتمسك بالذات , (( أمشي مع الجميع )) : هذا الجزء يعبر عن الاندماج الاجتماعي والمرونة , والتفاعل والقبول , فالشخص هنا يظهر الانفتاح على المحيطين به , يشاركهم في مناسباتهم , يستمع لوجهات نظرهم , ويتعامل معهم بود واحترام , إنه جزء فاعل من النسيج الاجتماعي , لا يعزل نفسه أو يتكبر, وهذا يتيح له التعلم والاطلاع, والمشي مع الجميع يعني الاستفادة من تجاربهم المختلفة والتعرف على تنوع الآراء وسبل الحياة , أما (( وخطوتي وحدي)) , فهذا الجزء هو جوهر العبارة , ويعبر عن الاستقلال الفكري والشخصي , وتعني أن الشخص رغم تفاعله مع الآخرين , إلا أن قراراته النهائية , قناعاته الأساسية , وأهدافه الخاصة لا تُملى عليه من الجماعة , ف(( الخطوة )) هي الاستراتيجية والمسار الذاتي في الحياة , وهذا ليس نفاقًا , بل إدارة للذات, إنه يشاركهم الطريق لوقت , لكنه يحتفظ بالبوصلة التي توجهه هو فقط , قد يبتسم لهم ويشاركهم الحديث , لكنه لا يتبنى رأيهم إذا كان مخالفًا لمبادئه أو منطقه , وهو وحده من سيتحمل نتائج خطوته , ولذلك لا يترك مصيره للتيار الجمعي.

لماذا لا تعني النفاق (الاجتماعي أو السياسي) دائمًا ؟ لأن النفاق , سواء كان اجتماعيًا (مجاملة كاذبة لإرضاء الناس) أو سياسيًا (إظهار الولاء مع إخفاء العداء) , يقوم على التزييف المتعمد وإخفاء الحقيقة بنية الخداع أو الكسب , في المقابل , فإن عبارة (( أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي)) تعبر عن : الجانب ألأيجابي , والحكمة والدبلوماسية في التعامل , وألأحترام المتبادل مع الحفاظ على الخصوصية الفكرية , والأستقلالية في أتخاذ القرار , والتكيف الواعي وليس الذوبان الخانع , خلاصة القول , العبارة هي دعوة لـ(( المرونة دون انكسار )) , و(( الاجتماعية دون ذوبان )) , ان الشخص الذي يتبنى هذه العبارة هو شخص قوي الشخصية بما يكفي ليتمكن من الاستماع للجميع دون أن يفقد صوته الخاص, هو يحضر المأدبة الاجتماعية أو يجلس في مجلس السياسة , يتبادل الحديث ويحترم الحضور , لكنه عندما ينهض ليخطو خطوته التالية في الحياة , فإنه يتبع خارطة طريقه التي رسمها هو لنفسه , لا الخرائط التي وزعها عليه الآخرون .

تحمل عبارة الشاعر العراقي سعدي يوسف: ))أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي )) وهي جزء من قصيدة بعنوان يحمل نفس العبارة , دلالات عميقة ومزدوجة , تجمع بين التناقض الظاهري والوحدة الداخلية , مما يمنحها دلالة مزدوجة : قوة إيجابية متمثلة في الأصالة والاستقلال , وعبء سلبي متمثل في العزلة والمعاناة الداخلية , ويمكن تلخيص الجوانب الإيجابية فيها كما يلي:

1. الاستقلال والتميز : تعكس العبارة قوة الشخصية والقدرة على الانخراط الاجتماعي (( أمشي مع الجميع )) , مع الحفاظ على الرؤية الخاصة والمنهج الفردي في التفكير والحكم (( وخطوتي وحدي )) .

2. الوعي والبصيرة : تدل على أن الشاعر أو المتحدث ليس مجرد تابع للقطيع أو مجاراة للآخرين , بل يمتلك بصيرة خاصة تقوده , حتى وهو يسير في المسار العام , هو يشارك الناس حياتهم لكنه يحتفظ بنقد داخلي , أو طريق خاص لم يزل لم يشارك فيه أحد.

3. العمق الداخلي: هي إشارة إلى الثراء الداخلي الذي لا يحتاج إلى الآخرين لكي يتأكد من صحة مساره , هو يسير بهدوء بين الجموع , لكنه يسعى وراء أهدافه وقناعاته التي رسمها لنفسه وحده.

4. الالتزام بالمبادئ : تعني القدرة على الانخراط في المجتمع والعيش فيه دون التنازل عن المبادئ والقيم الجوهرية التي يؤمن بها الفرد , مما يمنحه قوة معنوية كبيرة في مسيرته.

 

أما الجانب السلبي : العزلة والمعاناة الداخلية حيث يشير التناقض بين المشي مع الجميع والخطوة الفردية إلى إحساس بالوحدة الداخلية على الرغم من الوجود بين الناس، ويمكن تلخيص الجوانب السلبية فيها كما يلي:

1. الوحدة والعزلة الداخلية: على الرغم من الوجود الجسدي مع الآخرين , إلا أن العبارة تحمل دلالة الوحدة الوجودية أو الشعور بالاغتراب , فـ (( خطوتي وحدي )) , تعني عدم وجود شريك حقيقي في الفكر أو الروح ,، مما يولد إحساساً بالانفصال والوحدة وسط الجموع.

2. المعاناة النفسية: قد تشير إلى أن الخطوة التي يسير بها الشاعر خطوة صعبة أو مُتعبة يتحمل عبئها وحده , هو يرى ما لا يراه الجميع , ويسير في طريق لا يستطيعون فهمه أو مشاركته فيه , مما يثقل كاهله.

3. صعوبة التعبير والفهم: تحمل معنى الفشل في التواصل أو صعوبة نقل الرؤية الخاصة إلى الآخرين , هو مضطر للمشي معهم ظاهرياً لأنه جزء من هذا العالم , لكنه يعجز عن أن يجعلهم يشاركونه جوهر خطوته.

4. الاغتراب عن الواقع المشترك: قد تدل على عدم الاندماج الحقيقي في مصير الجماعة أو عدم القدرة على الانتماء الصادق , مما يجعله غريباً عن المحيط الذي يعيش فيه.

الخلاصة : تجسد العبارة حالة التناقض الخلاق في حياة المبدع أو المفكر, فهو يعيش حالة من التفاعل الظاهري (( أمشي مع الجميع )) , والانعزال الباطني (( وخطوتي وحدي )) , هذا التناقض هو مصدر قوته وفرديته (إيجابي) , وهو في ذات الوقت مصدر لمعاناته ووحدته (سلبي ) .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات