إنّ الجهل السياسي ليس مجرد ضعف في الإمكانات أو نقص في التجربة، بل هو حالة مركّبة من سوء التقدير، وانعدام الرؤية الاستراتيجية، والاعتماد على الولاءات العاطفية بدلاً من المعايير العقلانية والموضوعية… ؛ وتزداد خطورة هذا الجهل حين يتسلّل إلى قلب دوائر صنع القرار، فيُفسح المجال للمقرّبين من الساسة والقادة لإدارة شؤون الدولة رغم افتقارهم للخبرة، والكفاءة، والمعرفة اللازمة.
فالمشكلة لا تكمن في وجود المقرّبين بحد ذاته، بل في تضخيم أدوارهم وتحويلهم إلى مراكز نفوذ غير خاضعة للمساءلة، فتغدو القرابة باباً للتسلّط، والمجاملة بديلاً عن الكفاءة , الحزبية طريقا للوظيفة العامة , والمحسوبية دربا للامتيازات والاستثناءات ؛ وحين تُعطى المناصب الحسّاسة لأشخاص لم يُختبروا، ولم يتدرّجوا في المسؤوليات، ولم يمتلكوا المؤهلات العلمية والمهنية … ؛ يتحوّل القرار السياسي إلى رهان محفوف بالمخاطر، ويصبح المشهد برمته عرضة للفوضى وسوء الإدارة.
ولعلّ التاريخ يعجّ بأمثلة صادمة عن قادةٍ قُوِّضت دولهم بسبب حاشيات جاهلة أو انتهازية؛ فخلفاء بني العباس في عصور الانحطاط سلّموا مفاتيح القرار للخصيان والوزراء الفاسدين، فانشغلت الحاشية بصراعات القصور وتركوا أطراف الدولة تتفكك حتى سقطت بغداد تحت أقدام المغول. وفي العصور الحديثة، دفع المجرم صدام ثمن ثقته العمياء بدائرة ضيقة من أقاربه والمقرّبين منه، الذين عزلوه عن الواقع وروّجوا له صورة وهمية عن شعب راضٍ ونظام متماسك، حتى فوجئ بانهيار جيشه ودولته في أيام معدودات عام 2003؛ بل وسلموه للأمريكان … ؛ وكذلك سقط شاه إيران في السبعينيات لأنه أحاط نفسه بحاشية من المصفقين الذين نقلوا له ما يريد سماعه لا ما يجب أن يسمعه، حتى بات معزولاً عن حقيقة الشارع الإيراني المتذمّر.
إن استشراء ظاهرة المحاسيب والوصولية ليست مجرد خلل إداري عابر، بل هي آفة تهدد استقرار المجتمعات وتقوض تقدمها، لأن الدول التي تضعف فيها الكفاءة وتغيب فيها الجدارة هي دول تحفر قبرها بيدها، وتسلّم مصيرها لأيدي غير أمينة، وعقول غير كفؤة، وقلوب لا تنبض إلا بموسيقى المصالح الشخصية.
وإنّ أخطر ما يواجهه القائد أو المسؤول أو الزعيم ليس خصومه في الخارج، بل أولئك الذين يلتفون حوله في الداخل – الحاشية والبطانة – ؛ فحين تتحول الثقة المطلقة إلى غطاء للأخطاء، وتتوارى المعايير خلف ستار العاطفة أو القرابة، يصبح الانهيار مسألة وقت لا أكثر… ؛ ومن هنا فإن بناء حصانة حقيقية للدولة والمؤسسات لا يتحقق بالعلاقات الشخصية، بل بتفعيل آليات الرقابة، وإرساء قواعد المحاسبة، وإعلاء شأن الكفاءة على أي اعتبار آخر.
إنّ السياسة الناجحة هي التي تجمع بين الانفتاح والحذر، وبين الثقة والاختبار، فلا تترك الباب مفتوحاً أمام الجهل والعبث، ولا تسمح للحاشية الجاهلة أن تختطف القرار وتوجّهه حيث تشاء… ؛ فالمصلحة العامة أمانة، ومن يفرّط بها تحت تأثير العاطفة أو المجاملة إنما يزرع بذور الفشل في حاضر الدولة ومستقبلها.
إنّ السياسة الرشيدة هي التي تصنع توازناً بين الثقة والمساءلة، وبين الولاء والكفاءة، فلا تترك الباب مفتوحاً أمام الجهل والعبث، ولا تسمح للحاشية الجاهلة أن تختطف القرار وتوجّهه حيث تشاء. فالمصلحة العامة أمانة، ومن يفرّط بها تحت تأثير العاطفة أو المجاملة إنما يزرع بذور الفشل في حاضر الدولة ومستقبلها.
***معايير عملية للحدّ من ظاهرة الغباء السياسي:
*وضع أنظمة صارمة لاختيار المستشارين والمقربين على أساس الكفاءة والخبرة والشهادة العلمية، لا على أساس القرابة أو الولاء الشخصي.
*إجراء اختبارات دورية وتقييمات أداء شفافة لكل من يشغل موقعاً مؤثراً في صنع القرار، لضمان استمرار أهليتهم وجدارتهم بالموقع.
*تعزيز دور المؤسسات الرقابية والبرلمانية، ومنحها صلاحيات فعلية لمساءلة المستشارين والوزراء والمقرّبين من السلطة.
*فتح قنوات تواصل مباشرة مع الرأي العام لتصحيح الصورة التي قد تنقلها الحاشية، ومنع عزل القائد عن واقع الشارع.
*تفعيل ثقافة العمل المؤسسي بحيث لا تتأثر الدولة بغياب شخص أو فشل دائرة ضيقة، بل تعمل وفق منظومة متكاملة من القوانين والأنظمة.
*إشراك خبراء مستقلين في ملفات حسّاسة كالأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية لتوفير الرأي العلمي المحايد.