في هذا العالمِ المضطرب، الذي يعجُ بالأصواتِ النشاز، والتنافسُعلى الصدارة، ربما، الخيارُ الأفضلُ لدى الأغلبية، يكمنَ في الوحدةِوالصمت، الذي يرفضهُ الكثيرون، لكنَ الفلاسفة لهمْ وجهةُ نظرهمْ ، وتفكيرهمْ الخاص، الذينَ أدركوا هشاشةُ هذا العالمِ المتقلب، وتغيرَالموازينِ وتقلبِ الحالِ إلى حالٍ آخر، لذلك، قدْ أيقنوا في الوحدةِوالصمت، ملاذا في التأملِ لمعنى الحياةِ التي تستفزها المشاغلُاليومية.
إنَ لمفردتي الوحدة والصمت، معاني أخرى، فالبعض، يضعهمافي صفةِ التعقيدِ والانعزالية، وآخرين، يصنفوهما، بضعفِ الجانبِالنفسيِ والاجتماعي، لكنَ العقلاءَ المتفلسفين، لا ينظرونَ إليهما بهذاالمنظارِ الشكلي، ولا يعدوهما هروبا من الواقع ، بلْ عودةً عميقةً إلىالذاتِ، للمراجعةِ والتجديد، يضاف الى ذلك، فإن الصمت مهم جدا، في زمنٍ يعلو فيهِ الصوتُ على المعنى، يبدو فعلاً مقاوما ، لكنْ عندَالعقلاءِ، ليسَ سكونا سلبيا، بلْ هوَ شكلُ منْ أشكالِ الكلامِ العميق،في الصمتِ، تتكلمُ النفس معَ نفسها، ويعلو صوتُ الضميرِ،ويتلاشى الرأيُ العامُ. إنَ منْ يخشى الوحدةَ ، لا يخشى فقدانَالناس، ومنْ يألفُ الصمت، لا يخافُ الفراغ.
أنَ الإنسانَ يولدُ وحيدا ويموتُ وحيدا، وما بينهما ليسَ محاولاتٌللهربِ منْ هذهِ الحقيقة، لكنَ العاقل، لا يهرب، بلْ يواجه، ذاتهُ فيوحدتها، ويسبرَ أعماقَ فكرهِ في صمتهِ، فيتحولُ القلقُ إلى فهمِ،والخوفِ إلى طمأنينة. ونرى أمثلتها في الصوفية، كانَت الخلوةَوالصمتَ طريقا إلى معرفةِ اللهِ وتهذيبِ النفس، أما في الفكرِالبوذيِ؛ الصمتِ، والتأملِ أساس لتحريرِ العقلِ منْ المعاناةِ.
يقولَ الفيلسوفُ الشرقيُ لاوتسي: الصمتُ مصدرَ قوةٍ عظيمة، وفي هذا القولِ تتجلى، الفلسفةُ الشرقيةُ في تقديرها للفراغِ والصمتِ كحالةٍ خصبةٍ للتأمل. أما الفيلسوفُ الرومانيُ سينيكا، فيقول: الإنسانُ الحكيمُ لا يهربُ منْ الناس، بلْ منْ الضجيجِ الذي يصيبُ روحهُ بالتشويش، فالوحدةُ تمنحُ الإنسانَ فرصة، لإعادةِ ترتيبِ أفكارهِ وإعادةِ النظرِ في مواقفه، وفهمَ ذاتهِ خارجَ ضغوطِ الجماعة.
يقول الأديب الياباني هاروكي موراكامي: “الوحْدة والصَّمْتِ دَوَاءلِشفاء العاقلين: ” أنا واحدٌ منْ هؤلاءِ البشرَ يفضلونَ البقاءُ بلا رفقة،ولكيْ أكون أكثر دقة، فأنا شخصٌ لا أجدُ في الوحدةِ أيَ ألمٍ أوْ عناء“.
في هذا الشأن، يقولَ الدكتورُ إبراهيمْ الفقي: الحياةُ أحيانا تحتاجُ إلى تجاهلِ الأحداثِ والأشخاص، فعودُ نفسكَ على التجاهلِ الذكي، فليسَ كلُ أمرٍ يستحقُ وقوفك. وهنا تكسبُ راحةَ البال.
أما قراننا الكريم، فتناولَ الصمتُ في سورةِ مريم، فعندما دعا النبيُ زكريا (عليهِ السلام) الله- عزَ وجل- لطلبِ الولدِ في قولهِ تعالى: ( قالَ ربٌ إني وهنُ العظمِ منيَ واشتعلَ الرأسُ شيبا ولمْ أكنْ بدعائكَ ربا شقيا ) ، فقدَ أمرهُ اللهُ بالتزامِ الصمت، لتكونَ لهُ أيةٌ وعلامةً لقضاءِ حاجته، قالَ تعالى: (قالَ ربُ اجعلْ لي أية، قالَ آيتكَ ألا تكلمَ الناسِ ثلاثَ ليالٍ سويا ) .