يطرح القيادي في حزب تقدم علي فريق الغريري مفهوم “مخبر البناء” بوصفه إحدى أبرز الإشكاليات التي تعصف بمناطق جنوبي العاصمة بغداد، هذا المفهوم لا يشير إلى جهاز رسمي بقدر ما يرمز إلى حالة متشابكة، حيث تتحكم جهات أمنية وإدارية بعملية إدخال مواد البناء إلى الأحياء المشيدة على أراضٍ زراعية، في ظل أزمة سكن خانقة وتراجع متواصل للزراعة.
و”مخبر البناء” هو تسمية يطلقها الأهالي في مناطق جنوب بغداد على أشخاص مدنيين يعملون كجواسيس للقوات الماسكة للأرض، حيث يتولون مهمة مراقبة السكان والتبليغ عن أي محاولة لإدخال مواد بناء إلى الأحياء المشيدة على أراضٍ زراعية غير محوّلة، ليتم منعها أو مصادرتها، وبذلك تحوّل هذا الدور إلى أداة ضغط وابتزاز، زادت من معاناة الناس الباحثين عن مسكن في ظل أزمة السكن الخانقة.
ظهر “مخبر البناء” مع تفاقم الطلب على المساكن في السنوات الأخيرة، بعدما لجأ آلاف المواطنين إلى شراء قطع زراعية وتحويلها إلى دور سكنية من دون غطاء قانوني كامل.
ومع توسع الظاهرة، تدخلت القوات الماسكة للأرض، ففرضت قيوداً على إدخال الطابوق والحديد والمواد الإنشائية، بذريعة الحد من التوسع غير المرخص، وهكذا، نشأ مصطلح “مخبر البناء” ليعبر عن نقطة تفتيش أو سلطة واقعية تتحكم في مستقبل السكن بالمنطقة.
الغريري يرى أن المشكلة لا تقف عند حدود منع الشاحنات من العبور، بل تتعلق بغياب رؤية عادلة وشاملة لحل ملف الأراضي الزراعية. فالحكومات المتعاقبة لم تتخذ قراراً نهائياً بشأن تحويل جنس الأراضي، فيما بقيت البلديات تتحمل المسؤولية المباشرة عن ضبط عمليات البناء من دون امتلاك أدوات كافية.
والنتيجة أن المواطن أصبح عالقاً بين حاجته إلى منزل يؤويه وبين تعليمات متناقضة، تارة تصدر من لجان تقدير رسمية، وتارة تُفرض عبر إجراءات أمنية.
وأهمية معالجة مسألة “مخبر البناء” لا تكمن فقط في كونه عقبة إجرائية، بل لأنه يعكس تناقضات أعمق داخل السياسة العراقية، فمن جهة، تُرفع شعارات دعم الزراعة والحفاظ على الرقعة الخضراء، ومن جهة أخرى تُترك أزمة السكن تتفاقم بلا حلول عملية، ما يدفع آلاف العائلات إلى البحث عن خيارات بديلة، ولو على حساب القانون.
وهذه الفجوة فتحت الباب أمام اقتصاد ظل، حيث تُتداول مواد البناء بطرق ملتوية، وتُفرض أحياناً رسوم غير رسمية على الشاحنات، الأمر الذي أضاف أعباء مالية جديدة على السكان.
هذا الحال يعني أن “مخبر البناء” أصبح رمزاً لأزمة إدارة الأراضي في جنوب بغداد، ودليلاً على تداخل القرارات الأمنية والإدارية مع حياة الناس اليومية. فهو عقدة لأنها تكشف فشل الدولة في تحقيق توازن بين متطلبات التنمية الزراعية والحق في السكن، وتظهر حجم التشابك بين القوانين الجامدة والواقع المتحرك.
وبقدر ما يثير المفهوم ضيق الأهالي ومعاناتهم، فإنه يفتح الباب أيضاً أمام تساؤلات أوسع، بشأن من يملك حق التحكم في العمران، وكيف يمكن أن تتحول الأرض من مصدر إنتاج زراعي إلى مصدر نزاع إداري وأمني؟