عودة الفاشية في الرأسمالية المعاصرة (الجزء الأول)

عودة الفاشية في الرأسمالية المعاصرة (الجزء الأول)

بقلم: د. سمير أمين

خاص: ترجمة- بندر نوري وقاسم محمود

*تمت الترجمة بعد الحصول على موافقة مكتوبة من قبل دار النشر (مونثلي ريفيو).

ليس من قبيل الصدفة أن يربط عنوان هذه المسَّاهمة بين عودة الفاشية إلى الساحة السياسية وبين أزمة الرأسمالية المَّعاصرة. فالفاشية ليست مرادفًا لنظامٍ بوليسي سلطوي يرفض ضبابية الديمقراطية البرلمانية الانتخابية. إنما الفاشية استجابة سياسيةٍ خاصة للتحديات التي قد تواجه إدارة المجتمع الرأسمالي في ظروفٍ بعينها.

وحدة الفاشية وتنوعها

كانت الحركات السياسية التي يمكن بحق أن تُسمّى فاشية في الطليعة ومارست السلطة في عددٍ من البلدان الأوروبية، خصوصًا خلال ثلاثينيات القرن العشرين وحتى عام 1945. شمل ذلك إيطاليا تحت حكم بنيتو موسوليني، وألمانيا بقيادة أدولف هتلر، وإسبانيا في عهد فرانسيسكو فرانكو، والبرتغال تحت أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، وفرنسا في عهد فيليب بيتان، والمجر بقيادة ميكلوش هورثي، ورومانيا تحت حكم أيون أنتونيسكو، وكرواتيا في ظل أنتي بافيلتش. إن تنوع المجتمعات التي كانت ضحية للفاشية – سواء مجتمعات رأسمالية كبرى متقدَّمة أو صغرى تابعة، بعضها ارتبط بانتصارٍ في الحرب وبعضها الآخر كان نتاج هزيمة – يجب أن يمنّعنا من تجميعها جميعًا في خانةٍ واحدة. لذلك، سأُبيّن الآثار المختلفة التي أفرزها هذا التنوع في البُنى والظروف التاريخية داخل هذه المجتمعات.

ومع ذلك، وبغض النظر عن هذا التنوع، فإن جميع هذه الأنظمة الفاشية اشتركت في سِمتين أساسيتين:

أولًا: كانت جميعها مستَّعدة لإدارة الحكومة والمجتمع بطريقة لا تمس المباديء الجوهرية للرأسمالية، وبالأخص الملكية الرأسمالية الخاصة، بما في ذلك الرأسمالية الاحتكارية الحديثة. ولهذا السبب أصف هذه الأشكال المختلفة من الفاشية بأنها طُرقٍ خاصة لإدارة الرأسمالية، وليست أشكالًا سياسية تُشكك في شرعيتها، حتى وإن كانت “الرأسمالية” أو “حكم الأثرياء” موضوعًا لهجوم مطوّل في خطاب الفاشيين. غير أن زيف هذه الخطابات ينكشف بمجرد النظر في “البديل” الذي تقترحه أشكال الفاشية هذه، والذي يتجنب دومًا النقطة الجوهرية – أي الملكية الرأسمالية الخاصة. ومن ثم، فإن الخيار الفاشي ليس الاستجابة الوحيدة للتحديات التي تواجه الإدارة السياسية للمجتمع الرأسمالي؛ بل يظهر هذا الخيار في ظروف محددة من الأزمات العنيفة والعميقة باعتباره الأفضل لرأس المال المهيَّمن، وأحيانًا حتى الخيار المُمكن الوحيد. لذا، لا بُدّ أن ينصبّ التحليل على هذه الأزمات.

ثانيًا: إن الخيار الفاشي في إدارة مجتمع رأسمالي يمَّر بأزمة يقوم دائمًا – بحُكم التعريف – على الرفض القاطع لـ”الديمقراطية”. فالفاشية تستبدّل المباديء العامة التي تقوم عليها نظريات وممارسات الديمقراطيات الحديثة – كالاعتراف بتعدَّدية الآراء، واللجوء إلى الآليات الانتخابية لتحديد الأغلبية، وضمان حقوق الأقلية، إلخ – بقيّمٍ مضادة تقوم على الخضوع لمقتضيات الانضباط الجماعي وسلطة القائد الأعلى ووكلائه الرئيسيين. ويُصاحب هذا الانقلاب في القيّم دومًا عودة إلى أفكارٍ رجعية قادرة على إضفاء شرعية ظاهرية على آليات الخضوع التي يتم تنفيذها. إن إعلان “ضرورة” العودة إلى الماضي (“الإقطاعي”)، أو الخضوع للدين الرسمي للدولة، أو لبعض السِمات المزعومة لـ”العِرق” أو “الأمة” (الإثنية) يُشكّلان معًا ترسانة الخطابات الإيديولوجية التي توظفها القوى الفاشية.

إن الأشكال المتنوعة للفاشية التي شهدها التاريخ الأوروبي الحديث تشترك في هاتين السِمتين وتقع ضمن إحدى الفئات الأربع الآتية:

(1) الفاشية الخاصة بالقوى الرأسمالية “المتقدمة” الكبرى التي كانت تطمح لأن تُصبّح قوى مهيمنة على العالم، أو على الأقل على النظام الرأسمالي الإقليمي.

تُمثّل النازية النموذج الأمثل لهذا النوع من الفاشية. فقد أصبحت ألمانيا قوة صناعية كبرى منذ سبعينيات القرن التاسع عشر ومنافسة للقوى المهيَّمنة آنذاك (بريطانيا العظمى، وفرنسا بدرجة ثانية) وكذلك للولايات المتحدة التي كانت تطمح بدورها للهيمنة. وبعد هزيمة 1918، كان عليها أن تواجه نتائج فشلها في تحقيق طموحاتها الهيمنية. وقد صاغ هتلر خطته بوضوح: إقامة هيمنة ألمانية على أوروبا، بما في ذلك روسيا وربما ما وراءها، أي هيمنة الرأسمالية الاحتكارية التي دعمت صعود النازية. وكان مستعدًا للقبول بتسوية مع خصومه الكبار: تُعطى له أوروبا وروسيا، وتُترك الصين لليابان، وبقية آسيا وإفريقيا لبريطانيا العظمى، والأميركيتان للولايات المتحدة. غير أن خطأه تمثل في اعتقاده بإمكانية مثل هذه التسوية؛ إذ لم تقبلها بريطانيا ولا الولايات المتحدة، بينما أيّدتها اليابان.

وتندرج الفاشية اليابانية ضمن الفئة نفسها. فمنذ عام 1895، سعت اليابان الرأسمالية الحديثة إلى فرض هيمنتها على كامل شرق آسيا. وقد انتقل النظام “بسلاسة” من شكل “إمبراطوري” لإدارة رأسمالية قومية صاعدة – بمؤسسات “ليبرالية” ظاهرية (برلمان منتخب) لكنها خاضعة عمليًا للإمبراطور والأرستقراطية التي أعيد تشكيلها بالتحديث – إلى شكلٍ وحشي تُديره القيادة العسكرية العليا مباشرة. عقدت ألمانيا النازية تحالفًا مع اليابان الإمبراطورية/ الفاشية، بينما اصطدمت بريطانيا والولايات المتحدة (بعد بيرل هاربر عام 1941) بطوكيو، وكذلك المقاومة الصينية – حيث عوّض دعم الشيوعيين الماويين عن عجز الكومينتانغ.

(2) فاشية القوى الرأسمالية من الدرجة الثانية

يُعَدّ موسوليني في إيطاليا (مخترع الفاشية بما في ذلك اسمها) المثال الأبرز. لقد كانت “الموسولينية” استجابة اليمين الإيطالي (الأرستقراطية القديمة، البرجوازية الجديدة، الطبقات الوسطى) لأزمة عشرينيات القرن العشرين، وللتهديد الشيوعي المتَّنامي. ولكن لا الرأسمالية الإيطالية ولا أداتها السياسية، أي الفاشية الموسولينية، كان لديهما الطموح في السيّطرة على أوروبا، ناهيك عن العالم. فبالرغم من خطابات موسوليني المُبالغ فيها بشأن إعادة بناء الإمبراطورية الرومانية (!)، فقد كان مدركًا أن استقرار نظامه يستند إلى تحالفه – بصفته طرفًا تابعًا – إما مع بريطانيا العظمى (سيدة البحر المتوسط) أو مع ألمانيا النازية. وقد استمر التردد بين هذين التحالفين المحتملين حتى عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية.

تنتمي فاشية سالازار في البرتغال وفرانكو في إسبانيا إلى هذا النمط نفسه. فقد كانا دكتاتوريين نصّبهما اليمين والكنيسة الكاثوليكية استجابةً لأخطار الجمهوريين الليبراليين أو الجمهوريين الاشتراكيين. ولهذا السبب لم تتعرّض أنظمتهما قط للإقصاء أو النبذ من قِبل القوى الإمبريالية الكبرى بسبب عنفهما المعادي للديمقراطية (تحت ذريعة مناهضة الشيوعية). بل إن واشنطن أعادت تأهيلهما بعد عام 1945 (إذ كان سالازار عضوًا مؤسسًا في حلف شمال الأطلسي، فيما سمحت إسبانيا بوجود قواعد عسكرية أميركية)، ولحقت بها الجماعة الأوروبية التي كانت بطبيعتها ضامنة للنظام الرأسمالي الرجعي. وبعد ثورة القرنفل في البرتغال (1974) ووفاة فرانكو (1980)، انضمت هاتان الدولتان إلى معسكر “الديمقراطيات” الجديدة منخفضة الكثافة في عصرنا الراهن.

(3) فاشية القوى المهزومة

تشمل هذه الحالة حكومة فيشي في فرنسا، وكذلك ليون ديغريل في بلجيكا و”الحكومة الفلمنكية” المزيّفة التي دعمها النازيون. ففي فرنسا، اختارت الطبقة العليا “هتلر بدلًا من الجبهة الشعبية” (انظر مؤلفات آني لاكروآ-ريز حول هذا الموضوع). هذا النمط من الفاشية، المرتبط بالهزيمة والخضوع لـ”أوروبا الألمانية”، اضطر إلى التراجع إلى الخلفية عقب هزيمة النازيين. وفي فرنسا، أفسح المجال أمام مجالس المقاومة التي وحّدت لفترة من الزمن الشيوعيين مع مقاومين آخرين (تشارل ديغول على وجه الخصوص). أما تطوره اللاحق فقد كان مشروطًا بالتحاق فرنسا بمشروع “البناء الأوروبي” وانضمامها إلى خطة مارشال وحلف شمال الأطلسي، أي خضوعها الطوعي للهيمنة الأميركية. عندها فقط انفصل اليمين المحافظ واليمين الاشتراكي-الديمقراطي المعادي للشيوعية بشكلٍ دائم عن اليسار الراديكالي الذي خرج من المقاومة المناهضة للفاشية والمناهضة للرأسمالية المحتملة.

(4) الفاشية في المجتمعات التابعة في أوروبا الشرقية

ينخفض المستوى بدرجات عدة عندما ننتقل إلى دراسة المجتمعات الرأسمالية في أوروبا الشرقية (بولندا، دول البلطيق، رومانيا، المجر، يوغوسلافيا، اليونان، وأوكرانيا الغربية إبّان الحقبة البولندية). هنا ينبغي الحديث عن رأسمالية متخلفة وبالتالي تابعة. ففي الحقبة ما بين الحربين العالميتين، دعمت الطبقات الحاكمة الرجعية في هذه البلدان ألمانيا النازية. ومع ذلك، من الضروري دراسة البُنية السياسية لكل بلدٍ على حدى في علاقته بمشروع هتلر.

في بولندا، فإن العداء التاريخي للهيمنة الروسية (روسيا القيصرية) الذي تحوّل إلى عداء للاتحاد السوفياتي الشيوعي، والمُعزَّز بشعبية البابوية الكاثوليكية، كان سيجعل من هذا البلد تابعًا لألمانيا على نموذج فاشي. غير أن هتلر لم يفهم الأمر كذلك: فالبولنديون، شأنهم شأن الروس والأوكرانيين والصرب، كانوا شعوبًا مُقرَّرًا لها الإبادة، إلى جانب اليهود والغجر وغيرهم. لذلك لم يكن هناك مكان لفاشية بولندية متحالفة مع برلين.

أما المجر بقيادة هورثي ورومانيا بقيادة أنتونيسكو، فقد عوملتا كحليفين تابعين لألمانيا النازية. كانت الفاشية في هذين البلدين نتيجة لأزمات اجتماعية خاصة بهما: الخوف من “الشيوعية” بعد فترة بيلا كون في المجر، والتعبئة القومية-الشوفينية ضد المجريين والروثينيين في رومانيا.

وفي يوغوسلافيا، دعمت ألمانيا الهتلرية (وتبعها موسوليني في إيطاليا) “كرواتيا مستقلة” أُوكلت إدارتها إلى حركة الأوستاشي المعادية للصرب، بدعم حاسم من الكنيسة الكاثوليكية، بينما كان الصرب موضوعين على قائمة الإبادة.

لقد غيّرت الثورة الروسية بشكلٍ واضح المعادلة فيما يتعلق بآفاق نضالات الطبقة العاملة ورد فعل الطبقات المالكة الرجعية، ليس فقط في أراضي الاتحاد السوفياتي قبل 1939، بل أيضًا في الأراضي المفقودة – دول البلطيق وبولندا. فبعد معاهدة ريغا عام 1921، ضمّت بولندا الأجزاء الغربية من بيلاروسيا (فولهينيا) وأوكرانيا (غاليسيا الجنوبية التي كانت سابقًا أرضًا تابعة للتاج النمساوي؛ وغاليسيا الشمالية التي كانت مقاطعة ضمن الإمبراطورية القيصرية).

في هذا الإقليم بأكمله، تبلورت معسكرات منذ عام 1917 (بل منذ ثورة 1905 الروسية): معسكر اشتراكي-شعبي (أصبح بلشفيًّا) شعبي بين فئات واسعة من الفلاحين (الذين طمحوا إلى إصلاح زراعي جذري لصالحهم) وبين أوساط المثقفين (اليهود على وجه الخصوص)؛ ومعسكر معادٍ للاشتراكية (ومال بالتالي إلى التواطؤ مع الحكومات المعادية للديمقراطية ذات النزعة الفاشية) ضمّ جميع الطبقات المالكة للأرض. وقد عزّز إعادة دمج دول البلطيق وبيلاروسيا وأوكرانيا الغربية في الاتحاد السوفياتي عام 1939 هذا التناقض.

لقد طُمست الخريطة السياسية للصراع بين “المؤيدين للفاشية” و”المناهضين للفاشية” في هذه المنطقة من أوروبا الشرقية، من ناحية، بسبب الصراع مع الشوفينية البولندية (التي استمرت في مشروع “بولنة” المناطق البيلاروسية والأوكرانية الملحقة عبر مستعمرات استيطانية) وضحاياها من الشعوب؛ ومن ناحية أخرى، بسبب الصراع مع “الوطنيين الأوكرانيين” الذين كانوا معادين لكل من البولنديين والروس (بسبب معاداتهم للشيوعية)، ومع ذلك لم يُفسح لهم مشروع هتلر أي مجال لإقامة دولة أوكرانية كحليف تابع، لأن شعبها كان ببساطة موضوعًا على قائمة الإبادة.

أُحيل القاريء هنا إلى العمل المرجعي لأولغا أوستريتشوك Olha Ostriitchouk بعنوان: الأوكرانيون في مواجهة ماضيهم  (Les Ukrainiens face à leur passé)¹. إن تحليل أوستريتشوك الصارم لتاريخ هذه المنطقة (غاليسيا النمساوية، أوكرانيا البولندية، “روسيا الصغيرة” التي أصبحت أوكرانيا السوفياتية) يُمكّن القاريء من فهم الرهانات الكامنة في الصراعات المستمرة حتى يومنا هذا، وكذلك موقع الفاشية المحلية فيها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة