18 ديسمبر، 2024 7:49 م

استراتيجية تركيا ازاء العراق

استراتيجية تركيا ازاء العراق

اما القضية الثانية بشأن كركوك والتركمان، فقضية كركوك والاقلية التركمانية، تعدّ من القضايا الشائكة في العلاقات العراقية – التركية، فكركوك التي هي ساحة صراع عبر التاريخ بسبب موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية قد حظيت ومنذ الاحتلال الامريكي للعراق وتغيير النظام من العام 2003 بأهمية اتسعت ابعادها لتستوعب تداعيات الاحتقان التاريخي والتنوع العرقي والمصالح السياسية والاستراتيجية، الوطنية والاقليمية المتقاطعة في هذه المنطقة الغنية باحتياطاتها النفطية، والحيوية بدلالة موقعها الجيولوجي. وتبرز اهمية كركوك كونه منعرجا صعبا من التجاذبات والتقاطعات الاستراتيجية التي رسمت حدودها المصالح الاستراتيجية المتقاطعة لأطراف وقوى محلية واقليمية ومنها تركيا …. التي تعد نفسها مسئولة عن حقوق الاقليات ذات العرق التركي في دول مجاورة لها، ويمثل هذا التوجه نهجا تتبعه في سياستها الخارجية ، ووجود التركمان في كركوك الغنية بالنفط يشكل عامل اهتمام لتركيا وتحفز حالة عدم الاستقرار، تركيا لاستخدام التركمان ورقة ضغط سياسي توظفه عند الحاجة.
ويعود أصل التركمان الى الاقوام التي كانت تسكن مناطق القوقاز واسيا الوسطى وقد دخلوا الاسلام منذ الفتوحات الاسلامية الاولى لبلادهم، والتركمان في العراق هم اسلاف المقاتلين الذين استعان بهم العرب أيام الخلافة الاموية والعباسية، فضلا عما استقر من بقايا جيوش الاحتلال البويهي والسلجوقي والمغولي والاقوام التركية الاخرى التي احتلت العراق في عصوره المظلمة.
ويرى المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني ان التركمان يعيشون في المنطقة الممتدة من الشمال الغربي من العراق الى الجنوب الشرقي منه، وتبدأ من مدينة تلعفر التابعة للموصل وتمر بأربيل والتون كوبري وتضم كركوك وطوزخورماتو وفي النهاية تضم مدينتي قزرباط (السعدية) ومندلي التابعتين لديالى، ويقال ان هؤلاء هم بقايا جنود السلطان مراد الرابع الذي استعاد العراق من ايدي الصفويين العام 1638، وانه تم اسكانهم في هذه المنطقة بهدف تواصل الولايات التركية الجنوبية بالولايات التركية الشمالية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وخروج الدولة العثمانية منها خاسرة، منحت معاهدة لوزان من العام 1923، أنه من حق التركمان الساكنين في ولاية الموصل الاختيار بين البقاء في العراق واكتساب جنسية الدولة الجديدة، أو الرحيل الى تركيا مع أموالهم خلال مدة سنتين، ومع انتهاء المدة القانونية لم يرحل أحد، ولم ترحل أية عوائل. وبذلك أصبح التركمان مواطنين عراقيين كباقي سكان العراق من العرب والاكراد والاقليات الاخرى، أما علاقة الاتراك مع الاقلية التركمانية في العراق فهم يحاولون التدخل في شئون العراق بحجة حمايتهم، وأنهم يتحدثون بين حين وآخر عن الاقلية التركمانية وتعرضها للاضطهاد والتمييز وسوء المعاملة. وبذلك فان السياسة الخارجية التركية اختطت لها سياسة التدخل في شئون العراق تحت ذريعة اعتبار نفسها وصية أو حامية للتركمان في العراق (كما يحصل حاليا من تمسك تركيا بالبقاء عسكريا في بعشيقة).
اما كركوك فتبرز أهميتها الاستراتيجية، بّعدها نقطة وصل وربط بين الاناضول والعراق وايران، وقد ساعد التكوين الجيولوجي للمنطقة شمال مرتفعات حمرين على ظهور المعادن وتجمع النفط في هذه المنطقة، فقد اكدت البحوث منذ العام 1927 على وجود مخزونات هائلة من النفط في كركوك بأكثر من (10) مليار برميل، اي ما نسبته (7،5) % من اجمالي الاحتياطي النفطي العراقي. ويسكن كركوك مزيج من قوميات مختلفة من الاكراد والعرب والتركمان والآشوريين والكلدان وهذا ما دفع الباحثين الى تشبيه مدينة كركوك بعراق مصغر. وبكل الأحوال فان تركيا لا تفارق مدار هدفها الاستراتيجي في الحيلولة دون انضمام كركوك لإقليم كردستان، لأسباب عدة منها : أهمية المنطقة وعوائدها النفطية من الناحية الاستراتيجية كأول منفذ يتم عن طريقه تصدير النفط العراقي الى ميناء جيهان التركي، ومنها أيضاً ان الانفصال يصب في زيادة المساحة الممنوحة لأكراد كردستان، إذ ستقع الثروة النفطية في كركوك بيد الكرد مما يعني اعطائهم دفعة اقتصادية كبيرة تمكنهم من اقامة دولة كردية مستقلة لهم ويزيد احتمالات مطالبة اكراد تركيا بوضع مماثل، وهذا ما يشكل خطراً محدقاً بأمنهم القومي.
وبخصوص القضية الكردية، فبعد العام 2003 ، تبدلت موازين القوى وتداخلت الابعاد المحلية بالإقليمية والدولية وبالمصالح المتباينة لمختلف الاطراف، لقد كانت تركيا أحدى أكثر القوى استفادة من ورضى على الواقع، الذي كان قائماً في العراق قبل حرب الخليج الثانية 1990-1991 ومن ثم الى حد ما، قبل احتلال العراق العام 2003، فمن بين أهم الثوابت لتركيا (خطوطها الحمراء) كانت : عدم ضم كركوك في اي صفة مستقبلية الى المنطقة الكردية، سيطرة المركز على النفط (نفط كركوك)، عدم ظهور دولة كردية، وفقا لذلك كانت تركيا بوابة الاكراد على العالم بعد فرض الحصار على العراق وكانت للجيش التركي حرية التحرك ودخول شمال العراق والخروج منه او مطاردة مقاتلي حزب (pkk).
لقد تم انتهاك الخطوط الحمر لتركيا بعد دخول المجموعات الكردية الى اجزاء من الموصل وكركوك بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، وتوترت علاقات تركيا مع المجموعات الكردية في أيام الحرب وكان احتمال تدخل تركيا في المنطقة أهم عامل يقلق الأكراد، وكان تصريح مسعود البرزاني الذي قال فيه ” لنتحدث بصراحة اننا وصلنا الى اتفاق مع الولايات المتحدة حول عدم دخولنا الموصل – كركوك مقابل عدم دخول تركيا الى شمال العراق.
ومع هذا الوضع الجديد باتت أنقرة في معضلة حسابات، وانها ترى ان خطوطها التقليدية الحمر (الحقوق التاريخية، مسألة التركمان، وضع مدينة كركوك …) تجاوزتها التطورات وان أي خطا في حساباتها في هذا الخصوص قد يكلفها الكثير، وفي ظل هذه المتغيرات الجديدة أضحت السياسة التركية أمام محنة حقيقية في شمال العراق، ومع هذه المحنة ازداد الجدل بين القوى التركية في الطريقة الأفضل لسياسة بلادهم تجاه العراق وسط ريبة من سياسة الحليف الامريكي الذي وصف بالحليف الاستراتيجي منذ أكثر من نصف قرن.
وبعد ان أجريت الانتخابات التشريعية في (30/1/2005) برز متغير مهم أثر في السياسة التركية تجاه العراق تمثل بحصول الاكراد على (77) مقعدا من أصل (275) من مقاعد الجمعية الوطنية العراقية وعملهم على صياغة دستور جديد يكرس قيام (عراق فيدرالي)، الامر الذي تعده تركيا من المحرمات والخطوط الحمر. لقد اتسم الموقف التركي بالارتباك اولا وعدم الاعتراف بالواقع العراقي الجديد الا متأخرا، بعدما وجدت تركيا ان مسار ترتيب الواقع الجديد يمضي قدما، ولم تر تركيا عمليا امتدادا لها في العراق، فيما فشلت في رهانها على تركمان العراق الذين تفرقوا على قوائم الانتخابات العراقية اللاحقة مذهبيا.
راقبت الحكومة التركية عن كثب تطورات الاحداث في كردستان العراق بعد الاحتلال الامريكي والاتصالات بين الفصائل الكردية بشأن اقامة نظام فيدرالي في العراق يقود الى تأليف حكومة كردية موحدة تضم جميع الفصائل الكردية وفعلا ً بدأت تركيا بتحركات دبلوماسية مكثفة لضمان السيطرة على التحركات الكردية وضمان عدم امتدادها لتصبح نواة حقيقية لدولة كردية مستقلة التي كانت قبل الحرب تعد خطا ً احمر يجب عدم تجاوزه.
وحكم الموقف التركي ابان حرب الخليج الثالثة من العام 2003، اعتبارات سياسية واقتصادية وامنية وتغلبت عليه هواجس الخوف والقلق من تداعياتها على الامن القومي التركي، ولم ينحصر القلق التركي البالغ من احتمالات قيام دولة كردية مستقلة شمال العراق فحسب، وانما ما ستتركه الحرب من تبدلات جوهرية في خارطة موازين القوى عبر اعتماد الولايات المتحدة في استراتيجيتها في المنطقة على لاعبين جدد.
وقد كانت ترتسم في الافق عدة متغيرات بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق فيما يخص المسألة الكردية ، تعدها تركيا مؤذية جدا ً عليها، وأهمها:
1- انتقال العراق من النظام الشمولي الى النظام التعددي.
2- ظهور كيان كردي بكل ما تعنيه الكلمة.
3- تمركز مسلحي حزب (Pkk) في كردستان العراق.
4- ارتفاع درجة التضامن والاخوة بين اكراد العراق وأكراد تركيا.
وهكذا يمكننا القول: بأن القضية الكردية تبقى من الموضوعات الشائكة في العلاقات العراقية – التركية، وكانت المواقف التركية من القضية الكردية في العراق خلال المدة من (2002 – 2009)، قد تمثلت بالتدخل السافر والعمل على وضع حد للطموحات الكردية بشأن اقامة نظام فيدرالي في العراق كونها تشعر بقلق بالغ من ان يؤدي مزيدا ً من الاستقلال للأغلبية الكردية في شمال العراق الى ان تأجج النزعة الانفصالية للأغلبية الكردية أيضا في جنوب شرق تركيا، وانه وبعد الانتخابات العراقية التشريعية من العام 2005، عملت تركيا على تغيير استراتيجيتها وموقفها من القضية الكردية، خاصة بعد حصول الاكراد على 77 مقعداً في الجمعية الوطنية لذلك حاولت السياسة التركية لإبقاء على علاقات متوازنة مع القيادة الكردية في العراق عن طريق تعزيز خطوات اتخذتها مثل قبول قيام ترتيبات الفيدرالية لأكراد العراق وتطوير العلاقات الاقتصادية مع إقليم كردستان، إذ جعلت الاخيرة تركيا المستثمر الرئيس فيها بما يعادل نحو 80 % من الاستثمارات الاجنبية في الاقليم، لقد بحثت تركيا عن خيارات برؤية جديدة تمكنها من لعب دور فاعل.
إن سياسة الحكومة السابقة (المالكي)، دفعت وبتصرف غير حكيم تركيا لاحتضان إقليم كردستان النفطي، وإن روابط المالكي الحميمة مع إيران ودعمه لـ (بشار الأسد) في سوريا، أغضب الحكومة التركية وجعلها مقتنعة بعدم الوثوق بالحكومة العراقية بقيادة المالكي، إن الحكومة السابقة كما يبدو كانت عازمة على تدمير صناعة النفط في كردستان والرفض بشدة فكرة التصرف بالسياسة النفطية او حتى التفاهم على ذلك بين الطرفين، ومع غياب قانون للنفط والغاز تبقى هذه المشكلة من العقد الرئيسية بين السلطة الاتحادية والاقليم ولا يمكن حلها بشكل جذري الا بالإسراع بتشريع قانون النفط والغاز داخل البرلمان العراقي. لقد حققت تركيا في حينها تحولاً استراتيجياً في علاقاتها مع الأكراد، وأن النفط والغاز كانا السبب الرئيسي الكامن وراء دفء العلاقة الجديدة بين تركيا وكرد العراق، والتي تتطلع تركيا من خلال تطور هذه العلاقة لمساعدة الأكراد (وخاصة مسعود بارزاني) في كبح جماح الأكراد المتشددين داخل تركيا.
إن القيمة الاستراتيجية لموارد النفط والغاز الوفير في كردستان رسخت قناعة لدى صانع القرار التركي مفادها: أن تلك الموارد هي الطريق إلى استثمار الموقع الجغرافي لها وتحويله إلى قوة جيوسياسية عندما تكون مركزاً لنقل الطاقة وهذا لن يتم إلا عبر توثيق العلاقات مع كردستان، أن تركيا ماضية كما يبدو بالفلسفة الجديدة لسياستها حيال إقليم كردستان العراق، حيث يجعلها ذلك مركزاً عالمياً لنقل الطاقة بين الشرق والغرب.
إن تركيا من خلال سياسة حزب العدالة والتنمية وبقيادة رجب طيب أردوغان، حاولت طمأنة العالم بعدم تبني أجندة طائفية وبدا الأمر كذلك في البداية، إلا أن الواقع أفصح فيما بعد عن أن أردوغان لا يخلوا من مرض الطائفية، حيث لم يضم في حكومته أي من العلويين الذين يشكلون 20% من سكان تركيا، كما أن أردوغان لا يحمل كراهية كما يبدو حيال العلويين والشيعة فحسب بل حيال المسلمين الآخرين الذين لا يتفقون معه.
إن سياسة أردوغان الطائفية صبغت السياسة التركية مؤخراً حيال العراق وإن اعتراض أردوغان على الغزو الأمريكي للعراق يبدو يتماشى مع رغبة كامنة في منع تمثيل الشيعة في العراق، كما لا تزال تركيا تحتل ثلث قبرص، وتهاجم أهدافاً كردية في كردستان العراق، وفي هذا السياق، فإن احد الدوافع وراء التدخل التركي بالسياسة العراقية هي من الواضح دوافع طائفية…. سواء من خلال رعاية الجبهة التركمانية العراقية أو في احتضان تركيا لطارق الهاشمي. يتبع

نقلا عن طريق الشعب