في الفولكلور الشعبي القروي في ريفنا المصري، قصة شهيرة يصدّقها أبناء القرية. يشاهدُ الفلاحُ عفريتًا يداهم الحقل، فيسارع الفلاحُ بغرس مَسلّة (إبرة التنجيد الطويلة) في خِصر العفريت. فيتحول العفريتُ من فوره إلى حيوان ما يُسخّره الفلاحُ في أعمال الحقل، قد يُصبح العفريتُ حمارًا يحمل فوق ظهره السماد، أو بقرة يربطها الفلاحُ في الساقية لتروي الأرض، أو قد يغدو طائر أبي قردان يُنقّي له الدودَ من المحصول. فإذا حلّ المغرب، نزع الفلاحُ المسلّةَ من خصر العفريت/ الحيوان، فيتبخّر ويختفي. والحقُّ أن كثيرًا من الرجال، خاصةً في مجتمعاتنا، يتعاملون مع المرأة باعتبارها “عفريتًا”، يفيدون منه، حتى إن أتمّتِ المرأةُ مهامها، نزع عنها الإبرة، لتتبخر، ثم يبحث عن غيرها.
ولكن المرأة “فراشة” تملأ الدنيا بهجاتٍ وفرحًا. هكذا أراها ويراها كلُّ مُنصف. لكن، كما أن المرأة في كثير الأحيان تكون فراشة وديعة يُحبّها الرجل ويحترمها، أو زهرةً جميلة تنثرُ الشذى على كل من يحيط بها، أو كائنًا مُستضعفًا يستغلّها الرجل ويستذلّها، إلا أنها أحيانًا تكون “صقرًا” ذا جبروت. اخترتُ لكم اليوم نموذجًا لذاك النوع الأخير من المرأة. المرأة الجبّارة التي لا يقدر عليها رجلٌ.
هند بنت النعمان بن المنذر. كانت من أجمل نساء زمانها وأكثرهن علمًا ووعيًا وثقافة وبلاغة. وكانت شاعرةً مثقفة. تزوجّها الطاغيةُ الأشهر: “الحجّاجُ بن يوسف الثقفي”. تزوجها قسرًا رغمًا عنها ورغم أنف أبيها. وذات يوم، دخل عليها وهي واقفةً أمام المرآة تندب حظَّها التعس شِعرًا وتنشد:
وما هندُ الا مُهرةٌ عربيةٌ/ سليلةُ أفراسٍ تَحلَّلها بغلُ
فإن ولدتْ مُهرًا فلله درُّها/ وإن ولدتْ بغلاً فقد جاء به البغلُ
والمعنى واضحٌ. فهي مُهرة أصيلة، أي فَرس عربيّ أصيل، تزوجها بغلٌ، هجينُ الحصان والحمار، وهو الحجاج الثقفي. فإن ولدت له فرسًا أصيلا، فإن جيناته تعود لها ولسلالتها النقية، وإن استولدها بغلا، فهو لأبيه المُهجّن. فلما سمع الحجاج ذلك غضب وقرّر أن يُطلّقها. فأرسل إليها الخادم يخبرها بقراره، ويعطيها مؤخّر صداقها مائتي ألف درهم.
فذهب إليها الخادمُُ، وقال: “كنتِ …. فبِنْتِ”. أي كنتِ زوجةً، فضربك البَونُ (الفراق) وطُلّقتِ.
فقالت للخادم: “كُنا فما فرحنا، وبِنَّا فما حزنَّا. وهذه العشرون ألفًا لك؛ مقابل بشارة طلاقي من كلب بني ثقيف.”
وبالطبع، لم يجرؤ أحدٌ على التقدم لخطبتها بعد الحجاج، أشهر سفاحي التاريخ. وهي كذلك لم تكن لتقبل مَن دونه مكانةً وثراءً وحسبًا. حتى بلغ الملكَ “عبدالملك بن مروان” خبرُها، وعرف مبلغ حُسنها وثقافتها فأرسل يخطبها. فأرسلتْ له خطابًا يقول: “الثناءُ على الله والصلاةُ على نبيه، أما بعد. فاعلمْ يا أمير المؤمنين أن الكلبَ ولغَ في الإناء.” فلما قرأ رسالتَها ضحك، وأرسل يقول: “ قال صلى اللهُ عليه وسلم: فإذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم، فليغسله سبعًا، إحداهن بالتراب.”
فأرسلتْ تقول: “لا أُجري العَقدَ إلا بشرط. فإن قلتَ ما الشرطُ؟ أقول أن يقود الحجاجُ مَحملي إلى بلدك حافيَ القدمين.” أي أن يقود طليقُها هودج عرسها ومحمل شوارها من بدلتها إلى بلدة عريسها الجديد وهو حافي القدمين، تنكيلا به وإذلالا لذلك الطاغية الأشر.
فوافق ابنُ مروان وأرسل إلى الحجاج يأمره، فلم يستطع الحجاج أن يرفض، وانصاع للأمر الملكي. وذهب إلى بيت هند وطلب إليها أن تتجهز للسفر. فلما ركبت المحمل وحولها جواريها وخدمها، ترجّل الحجاجُ حافيًا آخذًا بزمام الهودج. فصارت تسخر منه وتضحك مع بَلانتها وجواريها. ثم أمرتهن بكشف ستار المحمل، فكشفنه حتي قابل وجهُها وجهَه؛ فضحكت عليه. فأنشد هذا البيت:
فإن تضحكي يا هندُ فرُبّ ليلةٍ/ تركتُك فيها تسهرين نواحا.
فاجابتة ببيتين:
وما نُبالي إذا أرواحُنا سلِمتْ / مما فقدناه من مالٍ ومن نسبِ
المالُ مكتسبٌ والعزُّ مُرتجعٌ / إذا اشتفى المرءُ من داءٍ ومن عطبِ
ولم تزل تضحك وتلعب حتى وصلت إلى قصر الخليفة، فرمتْ دينارًا على الأرض، وقالت: “يا جمَّال، سقط منا درهمٌ، فهاتِه.” فنظر الحجاجُ فلم يرَ إلا دينارًا، فقال لها: “هو دينار!” فقالت: “الحمدُ الله الذي عوضنا بالدرهم دينارًا.” فخجل الحجاج وقد فهم مرماها، بأن الله قد أبدلها الأعلى بالأدنى.
عند العصر، تأخر الحجاج في الإسطبل بينما الناس يتجهزون للغداء، فافتقده الخليفةُ ابن مروان وأرسل يطلبه للطعام. فرد الحجاج قائلا: “ربّتني أمي على ألا آكل فضلاتِ الرجال.”
فهم الخليفةُ معنى الإهانة. فما كان منه إلا أن منح زوجته أحد القصور، ولم يقربها ولم يمسس جسدها.
ولما علمت هندُ سبب رفضه الدخول بها، أمرت جاريتها أن تذهب للملك وتخبره أنها تريده في أمر عاجل. وقبل دخوله غرفتها قطعت عقد اللؤلؤ فانفرطت حبّاتُه على الأرض. رفعت طرفَ ثوبها تجمع فيه اللآلي، فشاهد عبد الملك حُسنها واشتهاها لكنه امتنع. فراحت تنظمُ حبات اللؤلؤ وتقول: “سبحان الله!”
سألها عن السبب فقالت: “هذا اللؤلؤ خلقه اللهُ لزينة الملوك.”
قال: “نعم.”
قالت: “ولكن شاءت حكمتُه ألا يستطيع ثَقبَه إلا الغجر.”
فقال متهللا: “نعم والله، صدقتِ! قبّح اللهُ مَن لامني فيكِ.”
نقلا عن المصري اليوم