ظاهرة زيادة عدد الفقراء والعوائل المتعففة في العراق ومع الثروات النفطية الهائلة:الأسباب الخفية والتحديات المستترة؟

ظاهرة زيادة عدد الفقراء والعوائل المتعففة في العراق ومع الثروات النفطية الهائلة:الأسباب الخفية والتحديات المستترة؟

(*)العوائل المتعففة : هي تلك الأسر الفقيرة التي تعاني صراحة من ظروف اقتصادية صعبة , ولكنها لا تُظهر حاجتها أو تطلب المساعدة , بسبب العادات الاجتماعية أو الكرامة الشخصية. هذه الظاهرة ما تزال موجودة و تُعد “خفية” لأنها لا تُسجل عادةً في الإحصاءات الرسمية، مما يجعل من الصعب قياس حجمها الحقيقي في الواقع الاجتماعي العراقي وعلى الرغم من وجودها , وكذلك أن الفقر الخفي يشمل أيضًا الأفراد الذين يعيشون على حافة خط الفقر، حيث يمكنهم تلبية الاحتياجات الأساسية بشكل محدود لكنهم عرضة للسقوط في الفقر المدقع بسبب أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية.

على الرغم من امتلاك العراق ثروات طبيعية هائلة، وعلى رأسها النفط والغاز، فإن سوء الإدارة والتخطيط، إلى جانب تفشي الفساد المالي والإداري، يحول دون استفادة الشعب العراقي من هذه الموارد الضخمة. كان من الممكن أن تسهم بدرجة كبيرة عائدات النفط المالية الطائلة في دفع عجلة التنمية نحو الأمام ، وخلق فرص عمل مستدامة، وتحسين البنية التحتية، لكن غياب الشفافية والنزاهة والكفاءة وتدهور الحوكمة حال دون تحقيق ذلك. و يتفاقم الوضع أكثر كذلك بسبب ضعف النظامين التعليمي والصحي، اللذين يعدان ركيزة التقدم في أي مجتمع . الخدمات التعليمية المحدودة والرعاية الصحية غير الكافية تعيقان قدرة الأفراد على تحسين أوضاعهم المعيشية وبناء مستقبل أفضل . وتبرز معاناة العوائل المتعففة بوجه خاص، حيث تتجنب هذه الأسر طلب المساعدة حفاظًا على كرامتها وعزة نفسها، رغم حاجتها الماسة. لذا، بات من الضروري تعزيز دور الجمعيات الخيرية والمبادرات المجتمعية لتقديم الدعم لهذه العوائل بطرق تحترم خصوصيتها وتحفظ كرامتها ومن دون التشهير بها ، ولضمان تخفيف معاناتها وتمكينها من مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية. حيث ما يزال يشهد العراق ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الفقر للعوائل المتعففة , وعلى الرغم من البيانات الرسمية لوزارة التخطيط التي تشير إلى انخفاض معدلات الفقر إلى حوالي 17% عام 2025 مقارنة 23 % بالأعوام السابقة. ولكن النسبة الحقيقية غير المعلنة اعلي بكثير ، وبما أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية تلعب دوراً كبيراً في هذه المعاناة الاجتماعية والإنسانية وفرص العمل أصبحت نادرة. وكذلك الفساد الإداري يفاقم الوضع؛ حيث تُهدر الموارد ولا تصل المساعدات لمستحقيها. المناطق النائية تعاني بشكل أكبر نظرًا لقلة الخدمات الحكومية والدعم الواصل لها . والحلول ما تزال مفقودة أو شبه معدومة وتتطلب جهودًا حكومية جادة وإصلاحات شاملة لتحسين الاقتصاد وتوفير فرص عمل حقيقية للعراقيين.

اليوم تُخصص العوائل المتعففة في العراق أكثر من 60% من نفقاتها الشهرية لتغطية تكاليف الغذاء والأدوية، التي غالبًا ما يتم شراؤها من الصيدليات الخاصة بسبب النقص المزمن في توافر الأدوية المجانية في المستشفيات الحكومية. وتضاف إلى هذه الأعباء المالية تكاليف إيجارات السكن، والمواصلات، وفواتير الماء والكهرباء، إلى جانب متطلبات الحياة اليومية الأساسية الأخرى. هذه الضغوط المالية تعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها هذه الأسر في ظل غياب دعم رسمي حكومي اقتصادي فعّال، مما يفاقم من ازدياد معاناتها ويحد من قدرتها بدرجة كبيرة ومؤثرة على تحسين أوضاعها المعيشية.

وفي بلد يمتلك ثروات نفطية هائلة تجعله من بين أغنى دول العالم، يعيش ملايين العراقيين تحت وطأة الفقر المستتر، حيث تتفاقم معاناة العوائل المتعففة بعيدًا عن الأضواء. على الرغم من الإعلانات الرسمية التي تتحدث عن تراجع نسبة الفقر وبحسب المسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة الذي نفذته هيئة الإحصاء بوزارة التخطيط ، فإن الحقيقة المخفية تكشف واقعًا أكثر سوداوية وقتامة ولان نسبة الفقر الحقيقية تجاوزت 35% بنهاية 2024، وهي في ازدياد مستمر، وكما أكده لنا مدير عام في وزارة التخطيط خلال حوار ولقاء خاص جمعنا به واستطعنا من الوصول أليه من خلال العلاقات الاجتماعية بالمعارف والأقرباء حيث أكد لنا بأن هناك :” دائمآ تناقض صارخ بين الرواية الرسمية الحكومية المعلنة من خلال الوزارة لوسائل الإعلام والواقع الحقيقي المعاش والذي نتلمسه يوميآ من خلال عملنا بوزارة التخطيط , ويعكس معها وجود أزمة عميقة، حيث يتم التلاعب بالأرقام والاحصاءات لإظهار منجزات حكومية وهمية، بينما يغرق المجتمع في دوامة الفقر، البطالة، والانهيار الاجتماعي”. ويضيف السيد المدير العام بأن :” النفط بدلآ أن يكون نعمة للمواطن العراقي يتلمس عائداته المالية الهائلة اصبح نقمة تدار عليه لان الحكومة تعتمد بصورة شبه كلية على الواردات النفط بنسبة تزيد عن 90% من إيراداته، يعاني من تقلبات أسعار السوق العالمية، التي تتحكم بمصير اقتصادنا الهش. وإلى غياب خطط فعلية لتنويع الاقتصاد وزيادة الإيرادات غير النفطية، وعلى الرغم الحاجة الملحة استراتيجيات طويلة الأمد تديرها خبرات متخصصة. بدلاً من ذلك، تستمر الحكومة في الاعتماد على دعايات انتخابية وبرامج عشوائية تخدم مصالح النخب السياسية والأحزاب الحاكمة ، التي تستحوذ على ثروات البلاد، تاركة الشعب يواجه شبح المجاعة، الصراعات العشائرية، وتفشي الجريمة بين جيل شاب مهمش غير متعلم” ويعقب السيد المدير العام بأن :” العوائل المتعففة، التي تشكل نسبة كبيرة من السكان، في ظل ظروف معيشية قاسية، على سبيل المثال، أسرة مكونة من شخصين تحصل على إعانة اجتماعية شهرية بقيمة 210 آلاف دينار فقط، بينما أسرة من ثلاثة أفراد تحصل على 315 ألف دينار، مبالغ زهيدة لا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية في ظل ارتفاع التضخم وتدهور قيمة الدينار مقابل الدولار. هذه العوائل، وقد توصلنا من خلال متابعتنا الميدانية وما اخبرونا به بعض المسؤولين في (وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ) : بأن هناك الآلاف من العوائل الفقيرة التي اصبحت تعتمد على النذور والمناسبات الدينية لتناول اللحوم (الحمراء , السمك , الدواجن ) تصور إلى أي مدى من الاذلال وأين وصلت إليه العائلة المتعففة العراقية ؟ أين حصتها من النفط ؟  وتواجه انعدام الأمن الغذائي، وأن الفساد مستشري وإحباط مجتمعي يشكل العدو الأول للتنمية في العراق، حيث أصبح دفع الرشاوي جزءًا من الروتين اليومي لتمشية المعاملات الحكومية، حتى في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي من المفترض أن تكون درع الحماية للفقراء” . ويضيف السيد المدير العام :” عن غياب برامج تنمية حقيقية، وأن السياسات الحالية تقتصر على دعايات حزبية تخدم الأجندات السياسية، بينما تتجاهل معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة، الأسر التي تعيلها نساء، والشباب العاطل عن العمل”.

أن التصريحات الصادمة قبل أسابيع من نقباء الصيادلة، الأطباء، وأطباء الأسنان، مثل حيدر فؤاد الصائغ وحسنين شبر وأركان العزاوي، والذين حذروا بدورهم :” الطلاب من الالتحاق بالتخصصات الطبية بسبب وفرة الخريجين ونقص فرص العمل لهم ” في إشارة إلى يأس غير مسبوق يعكس فشل النظام التعليمي والاقتصادي.أزمات متراكمة ومستقبل مظلم تتفاقم الأزمة مع تزايد عبء الأمراض المزمنة، التي تفتك بالمجتمع دون وجود برامج ضمان اجتماعي فعّالة لمواجهتها. الأسر التي تعيلها نساء، والتي تمثل شريحة هشة، تفتقر إلى دعم حكومي مخصص، بينما تتراكم الديون على الأسر الفقيرة، مما يزيد من هشاشتها الاقتصادية. انعدام الأمن الغذائي، الذي يتفاقم بسبب شح المياه الناتج عن تغير المناخ، يضطر العوائل إلى شراء المياه الصالحة للشرب من السوق، مما يستنزف دخلها الضئيل. وفي ظل ارتفاع معدل البطالة، الذي يصل إلى 21 % في المتوسط ، يتحول جيش الخريجين إلى قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الاجتماعي وقد تستغلها عصابات الجريمة المنظمة وبالأخص خريجي اختصاص الكيمياء بكافة فروعها لغرض تجنيدهم لتصنيع مواد مخدرة ومؤثرات عقلية.

أن عدم توفر الحلول المطلوبة تتجاوز الشعارات الجوفاء والإعلانات والإحصاءات الرسمية المزورة والمغلوطة والتي تروج لها على أنها إحصاءات رسمية صحيحة يجب أن تتوقف وأن تصارح الحكومة بحقيقة الوضع , وبدلا من ان تجعل الحكومة المواطن عدوا لها يجب أن يكون المعين والسند لها اذا صارحته بالحقيقة . لأن هناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة الاقتصاد، بدءًا من مكافحة الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، وصولاً إلى إنشاء مصانع ومعامل إنتاجية تمتص جيوش العاطلين عن العمل. يجب على الحكومة إعطاء الأولوية لدعم الأسر التي تعيلها نساء، وذوي الاحتياجات الخاصة، وتطوير برامج ضمان اجتماعي تتصدى للأمراض المزمنة وانعدام الأمن الغذائي. كما أن مواجهة تغير المناخ وشح المياه تتطلب استثمارات عاجلة في البنية التحتية والزراعة، بدلاً من الاعتماد على مشاريع عشوائية تخدم النخب السياسية.

وهناك كذلك ظاهرة حول ازدياد العوائل المتعففة والاعتماد على مكبات النفايات وتسرب الأطفال من التعليم حيث نشهد تزايدًا مقلقًا في أعداد العوائل المتعففة التي تعاني من الفقر الخفي، مما يدفعها إلى اللجوء إلى وسائل غير تقليدية لتحسين أوضاعها المعيشية. يبرز من بين هذه الوسائل اعتماد العديد من هذه الأسر على مكبات النفايات، حيث يقوم أفرادها، بما في ذلك الأطفال، بجمع المخلفات وإعادة تدويرها أو بيعها لتوفير دخل بسيط. هذا الواقع يزيد من تفاقم ظاهرة التسرب المدرسي، حيث يضطر الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة للعمل مع أسرهم في هذه الأنشطة الشاقة، بهدف دعم الوضع الاقتصادي للأسرة. هذه الظاهرة لا تعكس فقط الأزمة الاقتصادية، بل تكرس دائرة الفقر عبر الأجيال، حيث يُحرم الأطفال من التعليم، مما يحد من فرصهم المستقبلية ويعمق معاناة العوائل المتعففة في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية.

أن استمرار هذه الظاهرة المزمنة نتيجة حتمية لغياب الإرادة السياسية لان النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والحزبية والعشائرية يعيق تنفيذ سياسات طويلة الأمد لمعالجة الفقر والبطالة . ومع تجذر الخلافات السياسية وغياب الاستقرار يعطلان المشاريع التنموية و تمنعان تخصيص الموازنات الكافية لبرامج الحماية الاجتماعية والسياسات الحكومية أن وجدت على ارض الواقع فأنها غالبًا ما تكون قصيرة المدى وتركز على مكاسب سياسية سريعة بدلاً من معالجة جذور المشكلة ؟

إن معالجة الواقع المعيشي البائس للعوائل الفقيرة والمتعففة في العراق تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد، تركز على الجذور الهيكلية للفقر بدلاً من الاعتماد على حلول مؤقتة أو استغلالية مثل توزيع المواد الغذائية مقابل الأصوات الانتخابية. ما يظهر في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي من مشاهد تجمع العوائل أمام مقرات الأحزاب للحصول على مساعدات غذائية مقابل بطاقاتهم الانتخابية يعكس استغلالاً سياسياً للفقر، وهو ممارسة تُعزز التبعية وتُضعف كرامة المواطن بدلاً من تمكينه.لان هؤلاء البرلمانيون الذين يصلون إلى السلطة عبر استغلال الفقر غالباً ما يخدمون مصالح أحزابهم أو أنفسهم بدلاً من المواطنين. يجب تعزيز آليات المساءلة من خلال قوانين تُلزم النواب بتقديم تقارير دورية عن إنجازاتهم، مع إمكانية سحب الثقة منهم إذا ثبت إهمالهم لمصالح الناخبين؟ ولكن مع الأسف تبقى هذه الاماني مجرد أضغاث أحلام.

إن ظاهرة زيادة الفقراء والعوائل المتعففة في العراق ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي أزمة اجتماعية وسياسية معقدة تتطلب حلولًا شاملة ومستدامة. الأسباب الخفية، مثل الفساد، البطالة، الاعتماد على النفط، والعوامل الاجتماعية، تجعل هذه الظاهرة أكثر تعقيدًا. معالجة هذه الأزمة تتطلب إرادة سياسية قوية، استراتيجيات طويلة الأمد، وتعاونًا بين الحكومة، المجتمع المدني، والمنظمات الدولية. العراق، بثرواته الهائلة، يملك الإمكانيات لتحقيق تنمية شاملة، ولكن ذلك يتطلب التركيز على تحسين معيشة المواطن وتحقيق العدالة الاجتماعية. العراق على مفترق طرق العراق يقف اليوم على حافة أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، حيث تتسع الفجوة بين طبقة سياسية مترفة وشعب يغرق في الفقر واليأس. الرواية الرسمية، التي تتحدث عن تقدم في الحد من الفقر، ليست سوى قناع يخفي واقعًا مريرًا تكشفه معاناة العوائل المتعففة وصرخات الشباب العاطل عن العمل. إذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه الحقائق، فإن شبح الجريمة، الصراعات العشائرية، والانهيار الأخلاقي سيصبح السمة الغالبة مجتمع منهك. الوقت ينفد، والعراق بحاجة إلى إصلاحات جذرية، لا إلى وعود كاذبة ودعايات انتخابية؟.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات