في تاريخ القبائل العربية صفحات مشرقة خطّها رجال امتازوا بالأصالة والشجاعة والمروءة، وحملوا على عاتقهم ميراث العادات والتقاليد العريقة. ولعلّ أبرز ما ميّز شيوخ العرب ووجهاءهم صفة الكرم، ذلك الخُلق الذي عُدّ رمزاً للشجاعة والبطولة. فقد قال العرب قديماً: “الكرم شجاعة”، وهو قول صادق؛ إذ لا يكون الكرم إلا من قلبٍ شجاع لا تهمّه الأموال، بل يراها وسيلةً لإغاثة المحتاج وصون المروءة.
واليوم نقف عند سيرة رجلٍ من أولئك الرجال الذين سجّلوا أسماءهم بحروف من ذهب في تاريخ القبائل العراقية، وبقيت مواقفهم البطولية تُروى على ألسنة الأجيال. إنّه الشيخ شاهر السلمان، أحد شيوخ ووجهاء قبيلة الجبور في منطقة زمار غرب الموصل، الرجل الذي جمع بين الفروسية والحكمة والكرم اللامحدود.
والشيخ شاهر من مواليد ١٨٨٧ وقد توفي عام ١٩٦٥ عن عمر ناهز ال ٧٨ عام رحمه الله واسكنه فسيح جناته..
كان مضيف الشيخ شاهر السلمان قبلةً لكل أبناء القبائل من القرى القريبة والبعيدة، يلوذون به طلباً للكرم أو لحلّ المعضلات. وكان مضيفه مفتوحاً ليل نهار، يستقبل الزوار من كل صوب، حتى ذاع صيته في الموصل ومحيطها. وكان الرجل فارساً شجاعاً لا يعرف الخوف، وحكيماً يستشيرونه في الملمات، وصاحب يدٍ بيضاء لا يردّ سائلاً أبداً.
ومن بين مواقفه الكثيرة التي لا تُحصى، أختار للقارئ الكريم موقفاً واحداً يكفي لقياس باقي المواقف.
في خمسينيات القرن الماضي تقريباً، كانت السيارات نادرة في الموصل وقراها، والقلائل فقط يملكونها. وكان الشيخ شاهر يمتلك سيارة من نوع بيك آب، تُعدّ ثروة في ذلك الزمن.
وذات يوم، قصد مضيفه رجل خرج تواً من السجن، ليجد أنّ خطيبته التي كان ينتظرها قد خطبها آخرون، بعد أن دفعوا مهراً قدره (150) ديناراً، وهو مبلغ ضخم جداً في ذلك الزمان. حينها، قال له عمّه: “إن استطعت أن تؤمّن خمسين ديناراً، فابنتي لك ولن أزوّجها لغيرك”. لكن الرجل المسكين لم يكن يملك حتى درهماً واحداً، فدلّه الناس على مضيف الشيخ شاهر السلمان قائلين: “لا يحلّ مشكلتك إلا هو”.
دخل الرجل المضيف، وقُدّمت له الضيافة، ثم شرح قصته والضيق الذي وقع فيه. عندها أجابه الشيخ شاهر قائلاً:
”يا هذا، جئتني في شهر شباط، وهو شهر لا نملك فيه مالاً، فمواسمنا مع الحصاد. لكنك قصدتني، وأنا أبو فرمان، ولا أقبل أن يخرج ضيفي خائباً. هذه سيارتي حلال زلال لك، خذها إلى تلعفر وبِعها، واقضِ حاجتك”.
ورغم رفض الرجل في البداية، أصرّ الشيخ على موقفه. أخذ السيارة إلى تلعفر ليبيعها، لكن الناس هناك استغربوا قائلين: “هذه سيارة الشيخ شاهر السلمان، ولا يجرؤ أحد على بيعها أو شرائها”. وحين قصّ عليهم قصته، اجتمع التجّار وأهل الخير، وجمعوا له مبلغ الخمسين ديناراً، فقضى حاجته، ثم أعاد السيارة إلى صاحبها في مضيفه.
هكذا، تحققت إرادة الله، وانفرجت الأزمة، وبقي موقف الشيخ شاهراً مثالاً يُروى في الكرم والإيثار.
لقد كتب الشعراء في مدح الشيخ شاهر السلمان دواوين من الشعر، وقال أحد عوارف زمانه:
”لو كان للكرم لسان لقال: أنا ابن شاهر السلمان”.
بهذه المواقف، يُقاس الرجال، لا بالمناصب ولا بالمال ولا بالصفقات الزائلة، بل بالمواقف الصادقة عند العُسر، وبالوقوف إلى جانب من يحتاج العون.
رحم الله الشيخ شاهر السلمان، فقد ترك أثراً عميقاً في النفوس، وسجّل في التاريخ صفحةً مشرقةً من المروءة والكرم. وسيبقى ذكره يتردّد ما دام في العرب قلم يكتب، وما دام في الناس منصف يروي الحقائق.
إلى جنات الخلد أيها الرجل الكريم، وهنيئاً لك محبة الله، فقد قال النبي ﷺ: “إن الله يحب العبد السخيّ الجواد، ويبغض البخيل”، فكيف بمن كان كرمه مضرب المثل؟
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
الكرم عدهم بالفعل ماهو سواليف
اهل الصياني الصيتهم غازي الصوبين
وان جيت ابن سلمان كلها معاريف
الشيخ شاهر بالصدر رمز العناوين
راعي البخت والحظ حمالة السيف
هذا ابو فرمان شيخ الدواوين
رمز الشجاعه وياهلا بالضيف
حكيم وكتوا وفاهم القوانين
تشهد له زمار بالشتا والصيف
صيتو عبر بغداد وجبال حمرين
هذا اخو هدله وماتهمو المصاريف
شاهر السلمان والزين فوگ الزين