لطالما ساد الاعتقاد بأن العالم يسير على وتيرة ثابتة يمكن التنبؤ بها , وأن المستقبل هو مجرد امتداد منطقي للحاضر, لكن في بعض الأحيان , تظهر أحداث نادرة وغير متوقعة تمامًا , تقلب الموازين وتغير مسار التاريخ , هذه الأحداث هي ما يطلق عليه الاقتصادي والمفكر نسيم نقولا طالب (( نظرية البجعة السوداء Black Swan Theory ) , وهي أحداث تتميز بثلاث سمات رئيسية : كونها نادرة وغير متوقعة , وتأثيرها هائل وجسيم , وأخيرًا , القدرة على تفسيرها بأثر رجعي بعد وقوعها , وكأنها كانت متوقعة , وقد استمدت النظرية اسمها من قصة تاريخية شهيرة , فقبل القرن الثامن عشر , كان الأوروبيون يعتقدون أن جميع طيور البجع بيضاء , وكان هذا الاعتقاد راسخًا لدرجة أنه أصبح حقيقة مسلم بها , ولكن عندما اكتشف المستكشفون الأوروبيون طائر البجع الأسود في غرب أستراليا , انهار هذا الاعتقاد تمامًا , لقد كانت (( بجعة سوداء )) بالنسبة لهم , حدثًا غير متوقع , لكن وجوده أثبت أن توقعاتهم كانت خاطئة , وتكون احتمالية حدوث البجعة السوداء غير معروفة وغير قابلة للتنبؤ بشكل دقيق , وهذا يعني أنها ليست قابلة للتحليل بواسطة النماذج التقليدية أو الإحصاءات الاعتيادية التي تعتمد على الأحداث العادية والمتوقعة , ومع ذلك , يمكن أن تكون للأحداث النادرة تأثير هائل على الأفراد والمؤسسات والمجتمعات .
إذا نظرنا إلى تاريخ العراق الحديث , سنجد أنه مر بسلسلة من الأحداث التي يمكن وصفها بـ البجع الأسود , فغزو العراق عام 2003 كان حدثًا غير متوقع تمامًا بالنسبة للعديد من المراقبين , ليس فقط لضخامته , بل للنتائج الكارثية التي خلفها , لقد أدى هذا الغزو إلى انهيار الدولة ومؤسساتها , وغرق البلاد في دوامة من الفوضى والعنف الطائفي , ولم يكن أحد يتوقع أن يصبح بلدًا غنيًا بالموارد مثل العراق مرتعًا للفقر والبؤس , أو أن يتحول إلى ساحة خلفية للفساد والعصابات وأصحاب الخرافات , كما أن من النتائج المؤسفة لهذا الحدث هو إقصاء وتهميش العلماء والخبراء والمتنورين من أبناء الوطن , ليحل محلهم من لا يملكون الكفاءة أو الوطنية , لقد كانت تلك سلسلة من (( البجع الأسود )) التي قلبت حياة العراقيين رأساً على عقب , وأدت إلى واقع لم يكن في أسوأ كوابيسهم فبينما كانت التوقعات تشير الى احتلال سريع , لم يكن أحد يتوقع حجم الانهيار الذي تلا ذلك , والاضطرابات الطائفية , وصعود الجماعات الإرهابية , والتحديات السياسية والاقتصادية التي لم تنتهِ حتى اليوم , هذه الأحداث , بتأثيرها الهائل وغير المتوقع , تتوافق مع مبادئ النظرية.
ألآن , وبعد مرور أكثر من 22 عامًا على الغزو , لا يزال العراق يواجه تحديات هائلة , ورغم كل المحاولات , يبدو باب الأمل في الخروج من هذا النفق المظلم مغلقًا , قد يرى البعض أن الوضع أصبح مستحيل التغيير , وأن هذا هو قدر العراق , لكن وفقًا لنظرية البجعة السوداء , فإن المستقبل ليس بالضرورة امتدادًا للحاضر , فما الذي يمنع ظهور (( بجعة سوداء )) أخرى , حدث مفاجئ وغير متوقع يعيد للعراق عافيته ؟ قد تكون هذه البجعة ثورة فكرية , أو حركة وطنية حقيقية , أو ظهور قيادة جديدة غير تقليدية , أو حتى حدث عالمي يؤثر على المنطقة بأسرها , الأمل في أن تظهر بجعة سوداء تنقذ البلاد من هذا الواقع المرير وتعيدها إلى أهلها الحقيقيين من الوطنيين والكفاءات , هو ما يبقي جذوة التفاؤل مشتعلة في قلوب الكثيرين.
التفاؤل وحده لا يكفي , ولكن العمل الجاد والمثابرة على هذه الأسس يمكن أن يصنع الفرق , يعتقد كثيرون أن عام 2025 قد يكون عام (( العاصفة المثالية )) التي اكتملت فيها عناصر التغيير, وربما يكون العام الذي تظهر فيه البجعة السوداء وآثارها المرجوة, قد يكون التغيير الإيجابي (( بجعة سوداء )) غير متوقعة , لكنه لن يظهر إلا إذا تم تهيئة البيئة المناسبة لظهوره , حيث تشيرنظرية البجعة السوداء إلى أن التنبؤات غالبًا ما تكون قاصرة , وأن المستقبل يمكن أن يحمل أحداثًا غير متوقعة تمامًا , وفي حالة العراق , التنبؤ بـ (( مستقبل زاهر)) أمر معقد , فالتغيير الإيجابي الهائل الذي يغيّر مسار البلاد نحو الأفضل يمكن أن يكون بحد ذاته (( بجعة سوداء )) إيجابية , وحدثًا غير متوقع يخلّف تأثيرًا هائلاً , لكن ما يمكننا قوله هو أن التغيير لا يأتي من فراغ , أي مستقبل مشرق للعراق يجب أن يبنى على أسس صلبة تشمل : استقرار سياسي حقيقي , و إصلاح للعملية السياسية وإنشاء نظام يمثل جميع مكونات الشعب العراقي , وتنمية اقتصادية شاملة, و تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط , ومحاربة الفساد , وتوفير فرص عمل للشباب , وعدالة اجتماعية من خلال تعزيز المواطنة والمساواة أمام القانون , وبناء دولة المؤسسات , أضافة الى الأستثمار في جيل جديد مؤمن بالسلام والمستقبل.