بين المال والصحة: رحلة العمر وما تبقى من أمل

بين المال والصحة: رحلة العمر وما تبقى من أمل

‏كنا في الأمس القريب نضع أحلامنا أمام أعيننا، ونفكر دوماً بتحقيقها. كانت مجرد طموحات قد تبدو صعبة المنال أحياناً، لكننا كنا نتمسك بها. ومع مرور الزمن، وبعد أن هاجرنا من القرية إلى المدينة، بدأنا نعمل في الأسواق، أولاً في منطقة باب الطوب، ثم انتقلنا إلى سوق الجملة في الصناعة القديمة.
‏كان العمل يأخذ منا الليل والنهار، بيعاً وشراءً وربحاً وتجارة. كثيراً ما كنت أضطر إلى السفر يومياً إلى العاصمة بغداد من أجل إنجاز بعض الأعمال. كنت حينها شاباً بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين من العمر، أرى في التجارة مصدر رزق وفير، والحمد لله الذي وفقني أيضاً من خلالها في مساعدة المحتاجين من أهل وأقارب وأصدقاء، بل وحتى غرباء يقصدوننا دون معرفة سابقة.
‏في ذلك الزمان، كانت الدولة بقوانينها الصارمة تفرض الكثير من الإجراءات، ما جعل أغلب التجار يخشون التعامل مع الأجهزة الأمنية. لم يكن هناك مفهوم حقيقي للتجارة الحرة كما نعرفه اليوم، إضافة إلى سياسة الدولة في تجنيد الشباب المستمرة، حيث كنا نُستدعى للخدمة الاحتياطية لشهرين بين فترة وأخرى، وهو ما ضيّق كثيراً من حرياتنا الشخصية. ومع كل ذلك، واصلنا الكفاح والعمل في محلاتنا من أجل بلوغ أحلامنا.
‏عملت في تجارة المواد الغذائية، ونجحنا أحياناً في توقيع عقود مع وزارة التجارة لتجهيز مفردات البطاقة التموينية، أو البيع في الأسواق المحلية. كانت أرباحنا جيدة، ولم أشكي حينها من أي مرض يُذكر سوى صداع عابر أو تعب يومي يزول بانتهاء النهار.
‏لكن مع الأحداث التي مرت بالبلاد، تركنا العمل التجاري، وهاجرنا إلى إحدى الدول المجاورة لثلاث سنوات. وبعدها عدنا إلى العراق وسط الاضطرابات الأمنية، واضطررنا للنزوح إلى بغداد والبقاء فيها ثلاث سنوات أخرى. يبدو أن تلك الظروف القاسية بدأت تولد عندي مشاكل صحية لم أُعرها اهتماماً في البداية، ظناً مني أنها بسيطة.
‏ومع مرور الوقت، فوجئت بأول انتكاسة صحية خطيرة: جلطة قلبية تركت أثرها البالغ عليّ وما زلت أعاني من تبعاتها حتى اليوم. أصبحت دقات قلبي غير منتظمة، وأعاني من تسارع شديد قد يستدعي أحياناً استخدام الصاعق الكهربائي لإعادتها إلى وضعها الطبيعي.
وقبل مدة، راجعت الدكتور شيت الجبوري الذي قام بفحوصات دقيقة عبر أجهزة حديثة، ثم أحالني إلى مستشفى ابن البيطار في بغداد، وبالتحديد إلى الدكتور حيدر الكاهچي، أحد المختصين بأمراض كهربائية القلب. وبعد معاينة حالتي، تم تحويلي إلى مدينة الطب لغرض إجراء تصوير رنين خاص للقلب، وهو فحص لا يتوفر إلا بجهازين في العراق: أحدهما في بغداد، والآخر في النجف الأشرف.
‏‏وبعد تحديد موعد الفحص، تقرر إجراء عملية كوي للمنطقة المصابة داخل القلب عن طريق تداخل قسطاري جراحي في 30/9. وبينما كنت عائداً من بغداد إلى الموصل برفقة أبنائي، أخذت أسترجع شريط حياتي الطويل، وكل ما قدمته من جهد وتعب في هذه الدنيا، وكيف انتهى بي المطاف اليوم أبحث عن الصحة بعدما كنت بالأمس أبحث عن المال.
‏‏الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بيده الشفاء وهو القادر على كل شيء…

أحدث المقالات

أحدث المقالات