مدخل
تجربة كالهون، لا أريد وصفها تفصيلا لأنها مقززة وعرفت بـبيئة (الكون25) Universe25″، بدأت ببيئة مثالية (4 أزواج). لكن مع الاكتظاظ، ظهر مفهوم أطلق عليه كالهون “الحوض السلوكي” (Behavioral Sink)، حيث أدت الكثافة الاجتماعية إلى انهيار القيم والسلوكيات الطبيعية. ظهرت فئات من الفئران: “الجميلون” الذين انعزلوا وركزوا على الاستهلاك، و”العدوانيون” الذين مارسوا العنف، فئران معزولة تسمى “البؤساء” إناث هجرت دور الأمومة وهاجمت صغار غيرها. بينما الذكور الأضعف انسحبوا تمامًا من أدوار الحماية والتزاوج الأغرب أن الفئران بدأت تُظهر *)) سلوكيات شاذة: العزلة التامة، المثلية الجنسية، العنف غير المبرر، أكل لحوم بعضهم رغم وفرة الطعام كأن المجتمع انهار من الداخل بلا أي سبب خارجي، مع مرور الوقت، ارتفعت وفيات الصغار إلى 100% معدل الإنجاب وصل إلى الصفر. وفي عام 1973 مات آخر فأر انقرض المجتمع رغم الوفرة وتكرر الأمر 25 مرة؛ من منظور فلسفي، تعيدنا هذه التجربة إلى مفهوم المكان المثالي، غالباً ما تكشف عن هشاشة الطباع البشرية عندما تدخل النخبة المهيمنة على الحياة في صراع الانقراض هوبز، في كتابه “الليفياثان”، رأى أن الإنسان بطبعه أناني، ودون سلطة مركزية قوية، يتحول المجتمع إلى فوضى، واعتقد جان جاك روسو أن الإنسان طيب بطبعه، لكن المجتمع يفسده، تجربة كالهون تدعم هذين المنظورين جزئياً: الوفرة المادية، دون ضوابط أخلاقية أو اجتماعية، قد تؤدي إلى تدهور القيم وفي المجتمعات البشرية، نشهد ظواهر مماثلة، دول غنية بالموارد الطبيعية، مثل النفط، غالباً ما تعاني من الفساد وتفاوت اجتماعي حاد التفاوت في الوفرة، التي كان يفترض أن تكون نعمة، تتحول إلى نقمة عندما تُدار بغياب الأمانة والأخلاق فيكون أنواع من الفساد يتوالد كما القوارض في الطبقة التي تتخم وفي الشعب المنهك عندما تسحقه الشحة ويظلم، ويطلب منه ما ليس بطاقته فينتشر الفساد وتتبدل القيم ويتحول الألم إلى شر وانحطاط وخراب العمران بخراب القيمة العليا التي هي كرامة الآدمية وتكريم الله للإنسان.
الوفرة والبشر
المجتمعات البشرية لا تنهار من التخمة العامة، بل من التوزيع المختل: ثروة هائلة في يد قلة، وحرمان وقلق في حياة الأغلبية. هنا، يصبح الريع لعنة، والوفرة وجهًا خفيًا للشح.
الاقتصاد الريعي: وفرة فوقية وشحة سفلية:
الاقتصاد الريعي يقوم على تدفق موارد طبيعية أو مالية (نفط، غاز، معونات، احتكارات)، لكنه لا يخلق تنمية شاملة، بدون رؤية وفهم للسلطة والدولة وإنشاء أمة مترابطة ومجتمع له تطلعات ورغبة في الحياة……..بدلاً من ذلك:
تُستغل الثروات لشراء الولاءات، لا لبناء قدرات المجتمع.
تُوزع العوائد عبر شبكات فساد واحتكار، بينما يعيش عامة الناس في ضيق.
يصبح المواطن معتمدًا على فتات الدعم بدل أن يكون شريكًا في الإنتاج.
هنا تتشكل طبقة مترفة قليلة العدد، تنعم بامتيازات الريع، وطبقة واسعة تعاني شح الفرص وغلاء الحياة، رغم أن البلاد غنية نجد أن سوء توزيع الموارد واستثمارها والتوجه إلى السلطة لا إلى واجباتها يقود إلى الشح ومن الشح إلى الانحراف المجتمعي؛ كما في تجربة كالهون، تبدأ الأعراض:
الطبقات العليا تمارس الترف والاستهلاك المفرط دون إبداع.
الطبقات الدنيا تنزلق نحو الإحباط، الهجرة، أو السلوكيات الطفيلية.
الطبقة الوسطى، إن وُجدت، تُستنزف وتتآكل.
ويتحول الفساد إلى منظومة مغلقة، لا يتسرب منها إلا مزيد من الفوضى، لا الإصلاح.
الفساد البنيوي:
حين يصبح الفساد المالي والاداري سياسة، الفساد في هذا السياق ليس مجرد رشوة أو سرقة، بل منهج لإدارة الدولة:
توجيه العقود والمشاريع لمتنفذين.
تسخير القوانين لحماية مصالح القلة.
إضعاف المؤسسات الرقابية والقضائية.
صناعة أزمات مصطنعة لإشغال الناس بالبحث عن الخبز بدل المطالبة بالحقوق.
فقدان الرعاية للكوادر الخبيرة والنخب من الشريحة العلمية والثقافية إلا شكليا
هكذا يصبح المجتمع رهينة شبكة ريعية تبتلع موارده، وتتركه يتجرع شحًا دائمًا، لأنها ببساطة لا تشعر بان هذا شعب في مسئوليتها وإنما هو برستيج الحكم، والغلبة في نيل ما لست أهل له أو تستحقه شطارة.
كيف يُدار الشح في ظل الوفرة؟
الشرعية السياسية الهشة
النظام يستمد استمراريته من الريع، لا من العقد الاجتماعي.
يعتمد على القمع أو الإغراء المؤقت بدل الشفافية والمساءلة.
الاقتصاد كمجال احتكار
الثروات الوطنية تتحول إلى امتيازات خاصة.
المشاريع التنموية وهمية أو انتقائية.
النسيج الاجتماعي المفكك
الولاءات تُشترى، والمعايير الأخلاقية تتآكل.
المجتمع ينقسم إلى جماعات تبحث عن حصتها من الكعكة لا عن بناء الكعكة نفسها.
الرؤية الإصلاحية: من اقتصاد الريع إلى دولة العدالة
لا ينقذ مثل هذا المجتمع مزيد من المال، بل نقل الثروة من كونها أداة هيمنة إلى وسيلة بناء. الإصلاح يبدأ من:
تحرير الاقتصاد من الاحتكار
كسر حلقات الفساد عبر قوانين صارمة للشفافية.
تمكين القطاع الإنتاجي لا الريعي.
إعادة توزيع الفرص لا الصدقات
دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
إصلاح التعليم كأداة للارتقاء الاجتماعي.
بناء مؤسسات ضامنة للعدالة
استقلال القضاء.
محاسبة النخب بلا استثناء.
مشروع ثقافي يعيد الثقة
تحريك وعي المجتمع بأن الثروة ثروته، لا هبة من الحاكم.
نشر ثقافة العمل والإبداع بدل ثقافة الاعتماد والانتظار.
عقد اجتماعي جديد: يحدد العلاقة بين الدولة والمواطن وفق الحقوق والواجبات، لا المنح والمكرمات.
الدرس الفلسفي:
حين يفقد الناس الأمل يتحول الشح إلى موت بطيء، فالحرمان ليس يحمله الصبر، قد يتحول مواطن رزن منتج وضعه يشبه فارا في مخزن للحبوب ولا يصل إليه، إلى مجرم، ويبقى الفرق بين الإنسان والفار هو قدرته على استعادة القيادة والسيطرة وكسر الحلقة إن وجد قيادة صادقة وإرادة جمعية.
تجربة كالهون تُحذرنا من مصير الوفرة الفاسدة، أما الريع مع الشح فهو أخطر: لأنه يخلق مجتمعًا مشحونًا بالغبن، مفكك الروابط، قابلًا للانهيار بالاستبداد فالإصلاح الحقيقي ليس إحسانًا من فوق، بل حق يأتي عبر مشروع وطني جامع يعيد الثروة إلى الشعب.
دون شك التوازن مطلوب فنحن نرى بعض ما يحصل في مجتمع مترفه حصل في هذه الدراسة عندما لا يرافق الرفاهية تعظيم في الفهم والإدراك للغرض والرسالة من الحياة.