في زمنٍ تتكاثر فيه الضوضاء وتخفت الأصوات الحرة، تظل الكلمة قادرة على إشعال المعنى واستعادة مكانة الإنسان في قلب الثقافة، ومن هنا ينهض مهرجان الكتاب السنوي الثاني الذي ينظمه منتدى الركن المعرفي في مدينة الصدر، تحت شعار الاحتفاء بالكلمة والإبداع، ليمنح المدينة والبلاد بأسرها نافذة أوسع على النور،
ينظم منتدى الركن المعرفي هذا المهرجان الثقافي بوصفه محطةً سنوية للاحتفاء بالكتاب، وإعادة وصل المجتمع بفضاء المعرفة، وترسيخ فكرة أن الثقافة فعل يومي يتجاوز حدود النخبة إلى عامة الناس،
هذا العام يحمل المهرجان اسم الشاعر الراحل جبار رشيد، تكريما لمسيرته الأدبية وإشادةً بإسهاماته في إثراء الشعر الشعبي العراقي، حيث ظل شعره شاهدا على الوجع والكرامة في آنٍ واحد، اختيار اسمه ليس مجرد لافتة، بل هو استدعاء لذاكرة شاعرٍ ارتبطت كلماته بوجدان الناس وحياتهم اليومية،
في التاسع والعشرين من آب الجاري، ستكون ساحة مظفر على موعد مع حدث يتجاوز حدود التظاهرة الثقافية التقليدية، إذ يشهد المهرجان توزيع آلاف النسخ من الكتب في مختلف المجالات الأدبية والفكرية، لتكون بين يدي القراء والباحثين بلا حواجز ولا أثمان، إنها محاولة جريئة لإعادة الكتاب إلى دوره الأول: بوابة للوعي، ورفيقا للحياة اليومية، وسلاحا في مواجهة التهميش،
برنامج المهرجان لا يقتصر على توزيع الكتب، بل يفتح أبوابه لفعاليات غنية:
جلسات شعرية يحييها شعراء محليون يواصلون حوار الذاكرة مع الراهن.
ندوات فكرية وأدبية تناقش قضايا الثقافة ودور المثقف في زمن الأزمات.
ورش عمل تدريبية لصقل مهارات الكتابة والنقد الأدبي، خصوصًا لدى الشباب والمهتمين بالفنون، لتتحول الكلمة من مجرد نص إلى فعلٍ حيّ في المجتمع.
إن هذا المهرجان، في مدينة غالبا ما ارتبط اسمها بالحرمان والعزلة، يشكل رسالة بالغة: أن الثقافة لا تموت مهما تكدّست المصاعب، وأن الكتاب قادر على أن يفتح أفقًا جديدا وسط الركام.
فالاحتفاء بالكتاب ليس ترفا، بل استعادة لحق الإنسان في المعرفة، ولصوت المجتمع في مواجهة الصمت، وحين تُوزع الكتب بالمجان في الساحات العامة، يصبح الحدث إعلانًا رمزيا أن الثقافة لا تخص النخبة وحدها، بل هي خبزٌ يومي للجميع.
ولعل في إحياء اسم جبار رشيد ما يذكرنا بأن الكلمة تبقى، حتى لو غاب صاحبها؛ فهي تستمر في طرق أبواب القلوب، وتؤكد أن الشاعر يرحل بجسده لكنه يقيم في الوعي الجمعي ما دام صوته متجذرا في الأرض.
وهنا تتبدى عظمة الفعل الثقافي حين ينزل إلى الشارع ويجاور الناس، لا حين يبقى حبيس القاعات المغلقة،
إنه إعلان صريح أن الثقافة فعل مقاومة في وجه التجهيل والتسطيح،
وأن مدينة الصدر، رغم جراحها، قادرة على أن تكتب سطرا جديدا من الأمل والمعرفة.
فالكتاب هنا ليس سلعة، بل وعد بمستقبل أبهى.
ومهرجان جبار رشيد ليس مجرد احتفاء بذكرى شاعر، بل تجديد لعهد أن الكلمة لن تموت ما دام في العراق من يقرأ ومن يكتب.