سقوط الأقنعة في السليمانية : تكشف هشاشة الواقع الأمني وتعقيدات خطورة صراع العوائل الحزبية بالعراق قبل الانتخابات البرلمانية؟

سقوط الأقنعة في السليمانية : تكشف هشاشة الواقع الأمني وتعقيدات خطورة صراع العوائل الحزبية بالعراق قبل الانتخابات البرلمانية؟

في ليلة الخميس إلى الجمعة، 21-22 أب 2025، اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة في مدينة السليمانية، بين قوات أمنية خاصة تابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بقيادة “بافل طالباني، وحمايات “لاهور شيخ جنكي”، زعيم حزب “جبهة الشعب” وابن عم “طالباني”. هذه الأحداث، التي أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ما بين 10 إلى 20 آخرين بجروح متفاوتة ، والتي بدأت للترويج لها إعلاميا وبكثافة كمحاولة لتنفيذ مذكرة توقيف قضائية , وأنها ليست مجرد صراع داخلي على النفوذ ألمناطقي والحزبي والامتيازات المالية ، بل هي في واقع الأمر وحقيقته التي قد تكون ما تزال خافية عن الرأي العام بصورتها المخيفة وتعتبر مؤشر استراتيجي على مدى هشاشة الأمن الداخلي في العراق، حين تتحول مؤسسات الدولة الرسمية الأمنية وحتى القضائية الرسمية إلى مجرد واجهات شكلية تخفي خلفها صراعات النفوذ والتأثير المباشر من ناحية عائلية وحزبية وعشائرية تتجاوز احتكار الدولة المشروع لمواجهة العنف المسلح . ولكن البطولة الحقيقية التي رأيناها كانت لكاميرات الهواتف النقالة التي وثّق المواطنون من خلالها لحظات اعتقال “جنكي” وأخوته، وتنتشر الصور كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

الصراع على النفوذ بين أفراد عائلة “الطالباني” يأتي قبيل موعد الانتخابات البرلمانية وهذه الاشتباكات أتت كنتيجة حتمية ومفروغ منها في ظل توترات سياسية متصاعدة داخل (الاتحاد الوطني الكردستاني)، والذي يعاني من انقسامات شديدة منذ وفاة مؤسسه “جلال طالباني” عام 2017. حيث معظم القياديين بدا ينظرون إلى “بافل”، الذي تولى قيادة الحزب عام 2019، على أنه يسعى لتصفية جذرية لمنافسيه وخصومه السياسيين، في المقابل، شكّل “جنكي”، بالتعاون مع قيادات بارزة مثل “ملا بختيار” و”برهم صالح” وبعض القيادات السياسية المؤثرة في الوسط الشعبي ، تحالفًا انتخابيًا معارضًا يهدف إلى تحدي هيمنة ” بافال ” هذا التحالف، المدعوم بشعبية متزايدة لـ “جنكي” بفضل مؤسسته الخيرية ، أثار مخاوف حقيقية لدى “بافال” من تراجع نفوذه السياسي والحزبي داخل حتى الحزب الذي يترأسه ناهيك عن رأي المواطن . مما يعكس على الأبعاد الاستراتيجية عن مدى ما وصلت أليه هشاشة البنية الأمنية في العراق، حيث يتم استبدال احتكار الدولة للعنف بقوة السلاح الحزبي، الذي غالبًا ما يتفوق في تطوره وفعاليته على الأجهزة الرسمية وحتى غياب القوات الأمنية الاتحادية عن أدوارها الدستورية والشرعية ، وتحولها إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية، مما يجعل المواطنين رهائن التوازنات النفوذ الحزبي والعشائري. هذا الواقع يجعل معادلة الاستقرار الأمني في أي محافظة عراقية، بما في ذلك السليمانية، شديدة الضعف وعرضة للاهتزاز أمام أي اضطراب داخلي أو ضغط إقليمي وبالأخص تدخلات دول الجوار تركيا وأيران وتُبرز هذه الأحداث التنافس بين القوى الإقليمية، حيث يُعرف “بافل” بعلاقاته الوثيقة مع إيران والحرس الثوري، بينما يتبنى “جنكي” موقفًا مناهضًا للنفوذ الإيراني ، مما يعارض أيضًا سياسات حكومة إقليم كردستان في أربيل. وهذا الصراع قد يفتح الباب أمام تدخلات خارجية، سواء من إيران أو تركيا، مما يعقد المشهد السياسي والأمني في الإقليم وتداعيات على العراق لتثير هذه الأحداث قلقًا متزايدا لدى الأواسط الغربية بشأن استقرار العراق ككل، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والفراغ الدستوري في إقليم كردستان. وتدخل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وشخصيات من الإطار التنسيقي، للدعوة إلى التهدئة، يعكس محاولات بغداد لاحتواء الأزمة. ولكن هذا التدخل قد يُنظر إليه كتدخل في الشؤون الكردية الخاصة ، مما يزيد من التوترات بين بغداد وحكومة أربيل التي ترى في “بافال” غير أهلا للقيادة الحزبية ولتُظهر أحداث السليمانية أن الصراعات الداخلية العائلية والحزبية وحتى العشائرية في كردستان ليست مجرد نزاعات محلية يسهل احتوائها والسيطرة عليها ، بل لها تداعيات وطنية وإقليمية تهدد استقرار العراق.

في خضم الاشتباكات المسلحة العنيفة والتي استخدمت فيها أنواع مختلفة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة رافقها نزول مئات المقاتلين متسلحين وترافقهم الدبابات القتالية والمدرعات الهجومية ، ومن مقر إقامته في فندق “لاله زار” أصدر “جنكي” رسائل صوتية ومكتوبة وصف فيها الاتهامات ضده بأنها “ذرائع سياسية”، مؤكدًا بدوره :” بأنه محاصر ولن يستسلم، ودعا أنصاره للنزول إلى الشوارع “. وتُعد هذه الأحداث جزءًا لا يتجزأ من الصراعات العائلية والحزبية السياسية الداخلية داخل الاتحاد الوطني الكردستاني، التي تصاعدت وتيرتها بصورة أكثر حدة في السنوات الماضية.

كشفت كذلك هذه الأحداث أن ما يسمى بـ “الحكومة الفدرالية المركزية” كانت غائبة تماما عن دورها الدستوري والقانوني في الحماية , وان لغة السلاح الحزبي قد حل محل القانون والقضاء , لأن ما جرى في السليمانية ليس مجرد صراع داخلي، بل فضيحة كبرى تكشف عن استبدال احتكار الدولة المشروع لمواجهة العنف بكافة اشكاله وصوره بآليات حزبية موازية لها، بل وأحيانًا أكثر تطورًا وفعالية من الأجهزة الرسمية. قوات الأمن الاتحادية، التي كان يفترض أن تكون الحامي الدستوري للاستقرار، وقفت متفرجة بينما تحول المواطنون إلى رهائن في لعبة توازنات النفوذ العائلي والعشائري والحزبي. أن تصفية الحسابات و قبيل انتخابات برلمانية حاسمة، وسط تصاعد شعبية “جنكي” بفضل واجهات مؤسساته الخيرية التي يديرها بصورة غير مباشرة ومن خلال بعض قيادات “حزب الشعب” التي باتت تسحب البساط من تحت أقدام “بافل طالباني”. الأخير، الذي يرى في تحالف “جنكي” مع شخصيات بارزة مثل القيادي “ملا بختيار” و”برهم صالح” تهديدًا وجوديًا لنفوذه، لجأ إلى السلاح لإجهاض هذا التحالف المعارض. لكن هذه الخطوة، التي بدت كالقشة التي قصمت ظهر البعير، قد تكون بداية النهاية لسلطة “بافال” الحزبية، حيث كشفت عن ضعف بنية حزبه وسطوته، وأثارت غضب الشارع الكردي الذي يتطلع إلى تغيير يعيد الأمل بمؤسسات دستورية حقيقية وليست صورية أو شكلية ، ولا مجرد أدوات لتصفية الخصوم.ما حدث في السليمانية ليس مجرد أزمة محلية، بل جرس إنذار يعكس أزمة وطنية تهدد استقرار العراق.تخل حكومة بغداد يبدو وكانها كانت محاولة يائسة لاحتواء حريق قد يمتد إلى ما هو أبعد من كردستان. ولكن في ظل غياب دولة حقيقية تحترم سيادة القانون، واستمرار تسييس الأجهزة الأمنية .وفي لقطات تنضح بالسخرية المؤلمة، وثّقت كاميرات المواطنين لحظات اعتقال ” جنكي” على يد قوة “زانياري” والتي كانت تحت إمرة غير مباشرة من قبله وبقيادة “محمد طالباني”، ابن أخت “جنكي” وشقيق النائبة السابقة ” آلا طالباني”، وفي تناقض صارخ يعكس معه زيف الولاءات العائلية والحزبية. وجوه الضباط والمقاتلين، التي بدت غارقة في نشوة النصر وكأن تحرير القدس مرّ عبر اقتحام فندق “لإله زار”، كانت بمثابة شهادة حية على مستوى انحدار المؤسسات الأمنية واستخدامها إلى أدوات لتصفية الحسابات الشخصية والسياسية. هذه الفرحة العابرة، التي لم تخفِ الدماء التي أُريقت أو الجرحى الذين سقطوا، كشفت عن دولة غائبة، تُختزل إلى مجرد واجهة تخفي وراءها صراعات عائلية وحزبية تُدار بقوة السلاح وليس بلغة الحوار.

“بافال” احس بالخطر الحقيقي القادم من ابن عمه “جنكي” ومن خلال ارتباط اسمه بصورة غير مباشرة بعدة مؤسسات خيرية اجتماعية ساهمت في تعزيز شعبيته في السليمانية، خاصة بين أوساط الشباب. هذه المؤسسات الخيرية قدمت مساعدات اجتماعية وإنسانية، مما ساعد في بناء قاعدة شعبية له، ومن خلال المبادرات ركزت على تقديم مساعدات مالية وعينية، مثل توزيع مواد غذائية، دعم تعليمي، أو مساعدات طبية،هذه الأنشطة ساهمت في تعزيز صورته كسياسي قريب من هموم الناس، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها موظفين محافظة السليمانية، وبما في ذلك تأخر صرف الرواتب وارتفاع معدلات البطالة ولا سيما في مواجهة منافسه بافل، حيث رأى الأخير في هذه الشعبية المتزايدة تهديدًا مباشرًا لنفوذه وكانت هذه الأنشطة الخيرية عاملًا رئيسيًا في زيادة نفوذه السياسي والاجتماعي في المحافظة ، خاصة قبيل الانتخابات البرلمانية.

تكشف لنا هذه الاشتباكات المسلحة الدامية الصورة الحقيقية التي حاولت مختلف وسائل الإعلام الحزبية التابعة لـ “بافال” إخفاءها عن أعين المواطن وعن غياب شبه تام للغة الحوار البناء والتفاهم، حتى بين أبناء العائلة الواحدة وقيادات الحزب الواحد. فقد أظهرت المواجهات الدامية أن قوة السلاح تظل الأداة المفضلة لفرض الأمر الواقع، بدلاً من التفاهمات البناءة التي تهدف إلى النهوض بالواقع المعيشي والاقتصادي لمواطني السليمانية.الجهود المعلنة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المحافظة، التي تعاني من أزمات مزمنة مثل تأخر صرف الرواتب وتدهور الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، غالبًا ما تقتصر على محاولات إعلامية خجولة تهدف إلى تشتيت انتباه المواطنين، بدلاً من خلق أرضية مشتركة للحلول. هذه الأحداث تؤكد أن الصراعات الداخلية، سواء العائلية أو الحزبية، تهدد بتقويض استقرار الإقليم، في وقت تتطلب فيه التحديات الراهنة تعاونًا حقيقيًا بعيدًا عن لغة العنف والإقصاء والاغتيال السياسي, ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية ، يبقى السؤال: هل ستتمكن الأطراف السياسية من تجاوز هذه الأزمة عبر الحوار والقنوات القانونية، أم أن العراق على موعد مع مزيد من التصعيد والمواجهات المسلحة ليس فقط بمحافظة السليمانية وإنما بجميع محافظات العراق؟.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات