كانت السماء تمطر بلا انقطاع، واصبحت الرياح تلسع الوجوه كأنها تحمل معها سهامًا من برد. تحولت الطرق الترابية إلى طين ثقيل يلتصق بالأقدام، والأودية الفارغة عادةً صارت أنهارًا صغيرة تجري باندفاع، تحجب أي سبيل للوصول إلى منزله في تلك القرية..
كان إسماعيل، ذلك الفتى النحيل ذو الملامح الهادئة، يقود قطيعه من المواشي بين المراعي الزراعية البعيدة عن قريته. هناك، حيث خصوبة الارض التي تبحث عنها الأغنام، كان يجد رزقها، لكن اليوم، كل شيء تغيّر. المطر لا يرحم، والسماء تكاد تلامس الأرض بسحبها السوداء.
وقف إسماعيل في منتصف الطريق ، يتأمل القرية التي تلوح له كأقرب قرية، لا يفصلها عنه سوى قطعة أرض زراعية شاسعة يتوسطها ممر موحل. وفي أطرافها، لمح منزلًا وحيدًا، يواجه المطر بصمت. أخذ يحدث نفسه: “لمَ لا أطرق بابه؟ قد يمنحونني المأوى حتى يهدأ الطقس.”
كانت ملابسه خفيفة، لا تحميه من البلل أو البرد، فهو، كبقية أبناء قريته، يعرف جيدًا معنى أن يعيش تحت خط الفقر، حيث يكون الخبز أولوية قبل أي ثوب جديد. خطا خطواته الثقيلة نحو المنزل، وكل قطرة مطر كانت تزيده بردًا ووحشة.
من بعيد، لمحته صاحبة المنزل، فأشارت إلى أبنائها أحمد ومحمد ليستقبلوه. فتحا له الباب بابتسامة دافئة، وساقوا أغنامه إلى حضيرة كبيرة خصصوها للمواشي. رحبوا به بحرارة، وحين قدم نفسه قائلًا: “أنا إسماعيل، ابن أخو مختار القرية الفلانية”، ازداد ترحيبهم به.
ادخلوه إلى غرفة طينية دافئة، في وسطها مدفأة “علاء الدين” القديمة، تنبعث منها تلك النار الزرقاء. كانت الجدران الطينية تحبس الدفء، فشعر إسماعيل وكأنه انتقل فجأة من قسوة المطر إلى حضن آمن.
لم تمضي دقائق حتى وُضعت أمامه مائدة صغيرة عليها خبز الحنطة الطازج وصحن مليء بالدهن الحر. كان الجوع قد أخذ منه ما أخذ، فتناول الطعام بامتنان.
حين حل المساء، كانت الغيوم قد أطفأت آخر أنفاس النهار، وبدأ الليل ينسج ظلامه الكثيف. عرضوا عليه أن يبيت عندهم، قائلين: “اغنامك في أمان، وفي الصباح رباح.” لم يكن أمامه خيار، فالمطر يزداد، والأودية لا يمكن عبورها.
في تلك الأثناء، كان أهل قريته يتساءلون عنه، لكن الرعاة أخبروهم أن الطريق مقطوع، ولا سبيل لعودته. أما عمه، مختار القرية، فقد كان مسافرًا في تلك الليلة إلى مدينة الموصل، يرافق زوجته إلى المستشفى.
إسماعيل لم يكن ابنًا للمختار، بل ابن أخيه الشهيد، الذي رحل وهو يخدم في الجيش، تاركًا زوجة شابة سرعان ما تزوجت من آخر، وابتعدت عن ابنها، ليكبر بين جدران بيت عمه بلا أم، لكن بقلب مملوء بالبراءة والصبر.
جلس تلك الليلة مع العائلة المضيفة حول المدفأة، وكانت تلك أول ليلة ينام فيها خارج منزله. بدأوا يتحدثون ويسألونه عن حياته ودراسته. قال لهم إنه طالب في المرحلة الابتدائية، يساعد عمه في رعي المواشي بعد المدرسة، وإنه من الطلاب المتفوقين. رأوا فيه قلبًا نظيفًا وعقلًا ناضجًا رغم صغر سنه، وأحسوا أنه واحد منهم منذ زمن.
مرت الأعوام، وبقيت تلك الليلة الماطرة نقطة تحول في حياته. أصبح يزورهم باستمرار، حتى صارت العلاقة بين العائلتين كأواصر الدم. واصل إسماعيل دراسته بإصرار، فدخل الكلية الفنية العسكرية، وتخرج ضابطًا مهندسًا في الجيش العراقي.
وفي يوم ربيعي صافٍ، عاد إسماعيل إلى تلك القرية المجاورة والى ذلك البيت الطيني، لكن هذه المرة بزيه العسكري وهو يقود سيارته التي أكرمته بها الدولة، وهي من نوع سوبر تويوتا، يحمل بين يديه طلبًا لم يكن يومًا يجرؤ على البوح به… أن يتزوج ابنتهم، تلك التي عرفها منذ سنوات طفولته، والتي كانت تبتسم له حين يزورهم.
تم الزواج في حفل جمع أبناء القريتين والأهل والأقارب، وكان مميزًا بأنه يجمع الدفء الإنساني أكثر مما يجمع البذخ. هكذا، تحولت ليلة المطر الباردة إلى بداية حياة دافئة، رسمتها الأقدار بيد خفية، وجعلت من اليتيم الفقير رجلًا ناجحًا وزوجًا وفيًا، وقائدًا في خدمة وطنه.