22 أغسطس، 2025 10:36 ص

الشيعي والثقة بعصره

الشيعي والثقة بعصره

يمثل عصر صعود الشيعة، الذي بدأ في العام 1979، تحولاً تاريخياً غير مسبوق، مليئاً بالإنجازات والمكاسب النوعية في جميع المجالات. وقد رافق ذلك عقبات وتضحيات نوعية أيضاً؛ إذ لا ينفصل أي إنجاز نوعي أو طفرة حضارية أو مخاض ولادة عن الأوجاع والآلام المصاحبة له.
لقد تأسس هذا العصر الذهبي العالمي على نظرية الإمام الخميني النهضوية، وبجهوده وقيادته. ثم استمر في التقدم والصعود والنهوض بعد وفاته، ليغدو له حضور قوي في أكثر من بلد، وخاصة إيران ولبنان والعراق وسوريا واليمن والبحرين وأفغانستان وأذربيجان والهند وباكستان ونيجيريا. وبالتالي؛ فإن ما يعيشه الشيعة من حراك قوي فاعل ومؤثر في منطقة الشرق الأوسط، وكثير من دول العالم، هو بفضل نتاج النهضة التي صنعها عظيم الأمة الشيعية، الإمام الخميني، فضلاً عن أفكار وجهود رجال النهضة الكبار، كالسيد محمد باقر الصدر، والسيد موسى الصدر، والشيخ مرتضى المطهري، والسيد محمد بهشتي، والسيد محمد الصدر، والسيد علي الخامنئي، والسيد علي السيستاني وغيرهم.
إن الصعود الذي يعيشه الشيعة حالياً ليس له نظير في تاريخ غيبة الإمام، ربما باستثناء فترات معينة كعصور الشيخ عثمان العمري والشيخ أبي جعفر الطوسي والسيد إسماعيل الصفوي. فقد شهد عهد الشيخ عثمان العمري تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، وهو عمل تأسيسي جبار حافظ من خلاله الشيخ العمري العظيم على كيانية الشيعة وعمل على تطويرها وتمددها. أما الشيخ الطوسي، فقد أسس مركزية النجف الأشرف وبلور الشبكة الشيعية العالمية، وأعاد مأسسة النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي بصورته التي يعيشها الشيعة اليوم. في حين شهد العهد الصفوي صعوداً هائلاً للشيعة ونظامهم الاجتماعي الديني وحوزاتهم الدينية وحركتهم العلمية الحضارية، وتوسع كيانيتهم شرقاً وغرباً، ليس في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية وحسب، وإنما في القوقاز وشبه القارة الهندية وشرق آسيا.
وقد رافقت عصور الصعود هذه حملات تبليغية كبيرة قادها علماء الدين والمبلغون والناشطون الشيعة لتقوية الشيعة عقيدياً، ورص صفوفهم، وتوعيتهم بالمصير المشترك، وتطبيعهم على الصعوبات والتضحيات التي ترافق عملية الصعود والنهوض، ورصد الحملات الدعائية التي يقودها الخصوم الطائفيون، كالعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والأوزبك والتيميين وبقايا الأمويين وغيرهم، من أجل تفتيت الواقع الشيعي وبث الفتن داخله وإضعافه معنوياً وعقيدياً وعسكرياً. وكانت أشرس حملات الدعاية المضادة هي تلك التي دارت رحاها في العراق والحجاز والشام ولبنان، إذ كان الخصوم الطائفيون، بحكم الجوار الجغرافي، يعتبرون أن الشيعة العرب يمثلون خاصرة رخوة يمكن الضغط عليها لضرب الواقع الشيعي برمته.
وإذا انتقلنا إلى الواقع الشيعي الناهض القائم، فسنجد أن الحملات الدعائية الطائفية لم تختلف في أهدافها وغاياتها، ولا في التوجهات الفكرية والسياسية لأصحابها، منذ مئات السنين وحتى الآن. ولعل أهم أهدافها: تدمير النفس الجمعية الشيعية من الداخل، وتذويب الهوية الشيعية، وتمزيق الواقع الشيعي ونسيجه العالمي، وضرب مصادر قوته، وتحويله إلى بؤر محلية مفككة محاصرة.
ولذلك، من الأهمية بمكان أن يتجنب الشيعي، بكل الوسائل المتاحة، الوقوع في فخين أساسيين:
الأول: المبالغة في الدفاع عن وطنيته وتغليب هويتها على الهوية الشيعية العقدية الاجتماعية العالمية. فهذه نقطة ضعف رئيسية يدركها الآخر الطائفي، ولذلك يقوم باتهام الشيعي في وطنيته ليستفزه سلبياً، ويدفعه باتجاه التبرؤ من أهله الشيعة من القوميات والوطنيات الأخرى، وشتمهم أحياناً من أجل إثبات وطنيته، بل التبرؤ من طائفته وشيعيته، وهو ما يطالبه به الآخر الطائفي.
الثاني: التنكر للتحالفات البينية الطبيعية بين القوى الشيعية في البلدان المختلفة. فبينما يتحالف جميع البشر على أسس اقتصادية وآيديولوجية ومذهبية ودينية وسياسية، فإن الشيعة يُحظر عليهم التحالف والتكاتف والتعاضد لصد الخصوم والأعداء المشتركين.
وحيال ذلك، يجد بعض الشيعة أنفسهم مضطرين لمعارضة هذه التحالفات؛ فهم بالرغم من إخلاصهم لواقعهم ومذهبهم واجتماعهم الديني، يفتقرون إلى الشخصية الصلبة، وإلى الوعي الرصين الكافي الذي يجعلهم يثبتون في مواجهة رياح الحملات الدعائية الطائفية.
نلاحظ ــ مثلاً ــ عندما يُقال لبعض الشيعة المنهزمين إنهم تبعية وذيول وصفويون، أو إنهم متحالفون مع شيعة لبنان أو إيران أو داعمون لشيعة البحرين، فإنهم يصابون بالرعب ويلجأون إلى شتم حزب الله أو إيران أو اليمن، في محاولة لإثبات وطنيتهم وعدم تبعيتهم.
أو عندما يُقال له: «أيها الشيعي العراقي، أنت غير وطني، أنت لا تؤمن بالمواطنة ولا تؤمن بالوطنية»، فإنه يبدأ بسرد جميع المواقف التي تبين عكس ذلك، مثل: «نحن حاربنا إيران الشيعية تحت راية العراق السني، ونحن حاربنا الكويت تحت مظلة الدولة السنية، ونحن قتلنا المرجع الشيعي محمد باقر الصدر باسم الوطنية، ونحن دمرنا الثقافة الشيعية العراقية، ونحن دمرنا الحوزة العلمية في النجف». ثم يدافع عن أوهام المرجعية العربية والمرجعية العراقية والمرجعية غير الفارسية، لكي يقول عنه الآخر المتطرف أنه مع الدولة وأنه وطني وأنه عروبي حقيقي.
هذه الهزيمة النفسية ومنطقها المتهافت لا تنتمي إلى المنظومة الشيعية العلوية الشجاعة الشامخة، وإنما هي نتاج منظومة جبانة انهزامية تتنافى مع (طينة) الشيعي الموصولة بعلي بن أبي طالب؛ لأن طبيعة عقيدة آل البيت والنظام الاجتماعي الديني الشيعي القائم عليها تفرض على الشيعي أن ينتمي إلى الشيعي الآخر ويدعمه ويدافع عنه بكل ما يستطيع، دون النظر إلى قوميته وجنسيته، ودون أن يلتفت إلى سيول الاتهامات وسهام الحملات الدعائية الطائفية.
والشيعي العراقي لا يحتاج إطلاقاً إلى إثبات وطنيته أو الدفاع عن وطنيته أمام الآخر الطائفي أو الآخر المنسلخ عن جلده، وإنما هو الذي يجب أن يطالب الآخر بأن يثبت وطنيته، ويثبت أنه ينتمي فعلاً إلى العراق ودولته، وليس إلى سلطة الطائفة في زمن البعث، أو الأحزاب الطائفية التي تعمل على تخريب الدولة.
ويمكن للشيعي بكل سهولة أن يتمسك بعناصر هويته المركبة بشكل متوازن، وخاصة العنصر الوطني المحلي والعنصر العقيدي العالمي، لينسجم بذلك مع المنظومة القانونية لدولته من جهة، ومع المنظومة الشرعية لدينه ومذهبه من جهة أخرى؛ لأن التزام الشيعي بهويته الوطنية المحلية لا يتعارض إطلاقاً مع التزامه بهويته الاجتماعية الدينية الشيعية العالمية، والدفاع عنهما معاً، والعمل بما تتطلبانه من واجبات وحقوق.
كما أن معطيات عصر النهوض الشيعي تدفع الشيعي إلى أن يفكر ويخطط ويتحدث من منطلق القوة والاندفاع، وليس من منطلق الدفاع والخوف، وتحويل الطموحات إلى أفكار، والأفكار إلى نظريات، والنظريات إلى مشاريع عمل للنهوض على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدفاعية، لكي لا يعود الشيعة إلى واقع ما قبل العام 1979.